ليلةٌ هادئة ومقاعد فارغة في إحدى حدائق الشمال السوري المحرر، جلس وحده بعد صلاة العشاء وعيناه مخضبتان بالدمع.
العم محمد “إدلب، ٥٦ عاماً” جذبني الحديث معه، وتجرأت على سؤالهِ -بعد التعرّف عليه- عن سبب الحزن الذي يعتريه؟
ردّ بكلمتين: “التهجير يا بني”
واستكمل بعد تنهيدةٍ طويلة.. والخوف الذي يعتصر قلوبنا فالخروج من الموت إلى الموت مروراً بالموت هو أقسى ما قد يحدث للمرء.
في يومٍ مشؤوم خرجت مسرعاً من المنزل مع ابنتي الوحيدة تحت وطأة قصف المدفعية، وأصوات الرصاص، وأنا لا أدري إلى أين سيأخذنا الطريق.. دفعني صوتٌ بداخلي أن أكمل المسير وليكن إلى قدر الله تعالى.
غادرت المدينة، ووصلت إلى برٍّ اعتقدته الأمان، بعد أن اشتد القصف على مدينتي وأصبح الموت فيها أمراً مفروضاً، لم يكن قراري هذا إلا توقاً للأمان الذي رسمته بمحض إرادتي لحماية ابنتي.
ألقيتُ نظرةً للوراء.. وأمعنتُ النظر نحو البيوت البعيدة التي شاركتنا الحصار والحزن، وكل نظرة كانت تعادل ألف قصة من الفقد، منزلٌ فقدَ سُكانهُ ومازال حاضراً، وآخر يروي من بعيد مجزرة كبيرة كادت أن تحدث
!
انتقلنا مع مجموعة الناس التي خرجت مكرهة إلى أرياف حلب الشمالية الشرقية، لعلنا ننام في سلام، ولا نحلم بالموت غدراً.
هنا تبدأ حياة جديدة، حياةٌ لا أدري ما ستحمله لي ولابنتي الوحيدة، ياسمينة قلبي.
يستدركُ كلامه بإصرار وقد تجمعت الدموع في عينيه المتعبتين: سأقاوم ذبولها ما حييت، لن أدعهم يسرقوها مني كما فعلوا بأمها وإخوتها في ذلك اليوم الغادر، في قصفٍ عشوائي، طال جميع أحياء المدينة ومن بينها الحي الذي أقطنُ به، صاروخٌ واحد كان كفيل بأن أرى أشلاء عائلتي أمامي وابنتي تصرخ من تحت الأنقاض أخرجوني كرماً لله..
بعد إخراجها بأعجوبة، أطل الفجرُ علينا، وبعد أن جمع شُبان الدفاع المدني أشلاء عائلتي دفنتهم بإحدى الأراضي الزراعية التي أملكها، تركتهم وحيدون هناك ذاهباً إلى المنفى مع ابنتي والحزن يعتصر قلبي، فمشيئة الله أكبر مما نفعله.
استقبلتنا عائلة من سكان مدينة الباب، وأصبحنا نتقاسم لقمة العيش والحزن.. الضحك والخوف من القادم.
نحن نعلم تماماً أنه لا مفر من الموت، فهو آتٍ لا محالة، لكن الآن أستطيع عدَّ الأيام التي تبقت لي بنبضات مطمئنة يرافقها الهدوء، والأمل.
ولعل طريقنا إلى السماء طويلة، لكننا باقون، وسوف تكبر ابنتي هنا، لن أخاف من القادم، لسببٍ واحد إنه من الله عزَّ وجلّ.
اختتم قصته وهو غارقٌ في دموعهِ قائلاً: غربتي في بلدي، مهما اشتد كربها فهي أمني وأماني، سكني ومنفاي.
قصة خبرية: محمود المعراوي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع