أحدثت الإجراءات القضائية التي تتخذها المحاكم المصرفية في سوريا لتحصيل الديون المتعثرة، عمليه إرباك واسعة لدى رجال الاعمال والمستثمرين، ساهمت في تجميد النشاط الاقتصادي، وخصوصاً في القطاع الصناعي حيث يشكو الصناع من فقدان السيولة المالية، وهم يطالبون المصارف بتسهيلات تمكنهم من تصليح وترميم منشآتهم المدمرة جراء الحرب، واستيراد معدات جديدة، بدلاً من مطالبتهم بتسديد الديون، وذلك في وقت أعلنت فيه مديرية المدن الصناعية في وزارة الادارة المحلية في دمشق عن قرار باستثمار 650 مليار ليرة (نحو 2.5 مليار دولار) في أربع مدن صناعيه موزعة في ريف دمشق وحلب وادلب، وتشمل إنشاء 1580 مصنعاً.
وتقدر الديون المتعثرة بأكثر من 350 مليار ليرة، وتساوي نحو 7.8 مليار دولار، قبل الحرب عندما كان سعر صرف الدولار بـ 45 ليرة، ولكن قيمتها تآكلت بسبب تدهور سعر الليرة، على أساس دولار دمشق بـ 260 ليرة، وأصبحت نحو 1.3 مليار دولار، وعلى الرغم من هذا الانخفاض الكبير فإنها تواجه مشكلة مالية تؤثر ليس فقط على مسيرة العمل المصرفي، بل على مختلف القطاعات الاقتصادية، بما فيها مالية الدولة التي تدعم مصارف القطاع العام، وهي الأكثر تأثراً جراء الديون المتعثرة.
وتنظر المحاكم المصرفية حاليا في أكثر من 1500 قضية، منها 975 دعوى تقدمت بها ثلاثة مصارف حكومية، موزعة على الشكل الآتي: 385 قضية للمصرف العقاري، و390 قضية للمصرف التجاري السوري، و200 قضية لمصرف التسليف الشعبي. ولوحظ أن عدد الملفات المنظورة بدعوى أساس الحق بالمطالب وصل إلى 180 دعوى، ومعظم هذه الدعاوى تنتهي بأن يقوم المدين بتسديد القرض، أما دعاوى منع السفر فقد وصل عددها إلى أكثر من 170 دعوى، وجميعها لصالح المصارف مع احتفاظ المدعى عليه بحقه في الاستئناف.
العدل .. والظلم
تحاول القاضية سميرة شاهين رئيسة محكمة البداية المصرفية في دمشق طمأنة المتقاضين بأمرين اساسيين:
أولا: حرص المحكمة على تحقيق العدالة، خصوصاً وأن المال المتعثر بالنهاية هو مال عام وللمودعين، ومن واجبها المحافظة عليه وتحصيله.
ثانياً: تنظر المحكمة في الدعاوى وتبت بها بسرعة، مثال على ذلك فان ملفات التنازل بالدعوى عن الحق العام، ينظر فيها في اليوم الأول، وفي اليوم التالي يصدر القرار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ملفات منع السفر التي تبت بها المحكمة في اليوم نفسه، وإذا لم تتمكن بسبب ضغط العمل، يؤخذ بها قرار في اليوم التالي.
لكن رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية المهندس فارس الشهابي يتحفظ على الموضوع، ويفضل عدم استباق تجربة احداث المحاكم المصرفية، مؤكداً أنها “ربما تكون جيدة حسب خطتها ورؤيتها في العمل، وهناك حالات تظلم كثيرة، لأن معظم القضايا سببها الحرب وما الحقته من خسائر مادية كبيرة، وإذا لم تكن هذه المحكمة عادلة وسريعة، فسيكون ذلك كارثياً على الاقتصاد الوطني، ما يسهم في فقدان الثقة به، ولذلك نأمل ان تسهم هذه المحكمة في انصاف الناس”.
ولعل أهم ملاحظة سجلها رجال الاعمال متخوفين من عدم عدالة المحكمة، لأنها لا تميز عند تنفيذ قراراتها بين المقترضين المتعثرين الذين يقيمون في سوريا ويحاولون متابعة نشاطهم رغم كل صعوبات الحرب وويلاتها وخسائرها، وبين المقترضين الذين تركوا سوريا وهربوا مع أموالهم، مع العلم أن جزءاً من الديون المتعثرة كان موجوداً قبل بدء الحرب في أول العام 2011، ومن الطبيعي أن لا يؤثر قرار منع السفر على المهاجرين مع أموالهم إلى الخارج، في حين انه يؤثر كثيراً على المقيمين ويعرقل أعمالهم وخصوصاً التي تتطلب منهم السفر لإنجاز عمليات التصدير والاستيراد.
ويرى رجال الاعمال ان قرارات المحاكم المصرفية بفرض غرامات على المقترضين المتعثرين وغير القادرين على الدفع وبيع مؤسساتهم في المزاد لا يحل المشكلة، لا سيما وأن هناك مؤسسات تقع في مناطق ساخنه ومتوترة، وهي متوقفة عن العمل.
وبما أن “المال الميت” لا يمكن أن يبعث حياً إلا “بالمال الحي”، لذلك يطالب رجال الأعمال بأن تقوم المصارف الدائنة بتقديم قروض جديدة لتمويل إعادة تصليح وترميم وتشغيل المؤسسات المتضررة، حتى تتمكن من تأمين أرباح تساعدها على تسديد الديون المترتبة عليها.
العجز المالي للنظام
لقد اعتبرت رئيسة لجنة المصارف في غرفة صناعة دمشق وريفها مروة الايتوني أن تسويات القروض والاجراءات القضائية والمصرفية لم تكن لصالح القطاع الصناعي، مؤكدة أن المصارف ضامنه لحقها اساساً بقيمة تتجاوز 70 في المئة فوق قيمة القرض، ومن واجب الدولة أن تتحمل ابناءها من الصناع الذين تعرضت منشآتهم للتخريب من قبل “المجموعات الإرهابية المسلحة” بالكامل ومساعدتهم على تسديد هذه القروض عن طريق منحهم قروضاً تشغيليه ولو بمبلغ يتراوح بين 5 الى 10 ملايين ليرة (بين 20 الى 40 ألف دولار) للصناعي الواحد، تضاف الى قروضه السابقة بحيث يتسنى له العودة إلى الإنتاج.
هل تستطيع الدولة أو المصارف الحكومية التابعة لها تقديم هذه القروض؟..
المعروف لدى الجميع أن النظام يعاني من أزمة مالية شديدة وهو يعتمد على المساعدات الخارجية ولا سيما التي يحصل عليها من ايران وقد تراجعت أرقامها مؤخراً بسبب الأزمة المالية التي تعاني منها ايران نفسها نتيجة تطبيق العقوبات الأميركية والأوروبية والدولية عليها.
وعلى الرغم من غياب الارقام الحقيقية للإيرادات، فقد اشار وزير المالية اسماعيل اسماعيل في بيان موازنة العام 2015 إلى المأزق المالي الذي تواجهه الحكومة من “خلال زيادة عجز الموازنة، نتيجة اضطرارها إلى زيادة حجم الانفاق العام لتعزيز مقومات الصمود الوطني والاستقرار الأمني ودعم الاقتصاد، في مقابل انخفاض مصادر التمويل الداخلية والخارجية، بسبب تقلص المصادر الضريبية وتراجع الإيرادات الأخرى للخزينة العامة، وأهمها الإيرادات النفطية والسياحية”.
أما أولويات العمل المالي الحكومي في المرحلة المقبلة، فقد وصفها الوزير إسماعيل بأنها “تتمثل في الاستمرار بتأمين مستلزمات مكافحة الإرهاب وإعادة الأمن والأمان وتأمين مستلزمات الإغاثة والإيواء والاستجابة للاحتياجات الإنسانية وتحسين الواقع المعيشي وتطوير وتعزيز الإنتاج الوطني، والتهيئة العملية لإعادة الإعمار”، مشيراً إلى أن هذه الأولويات ستحدد استراتيجية العمل الحكومي من خلال برنامج محدد لسياسات الإصلاح الاقتصادي والمالي.
أما بالنسبة إلى المصارف الحكومية فهي بدورها تعاني من أزمة ماليه وضعفاً في السيولة، ويرى مدير المصرف الصناعي قاسم زيتون أن المصرف غير قادر على الاقراض بسبب نسبة السيولة المنخفضة لديه، مشيراً إلى أن هذه النسبة كانت بنهاية العام 2013 نحو 24.14 في المئة، ثم انخفضت إلى 13.47 في المئة بنهاية العام 2014، وقد تحسنت نسبياً بنهاية الفصل الأول من العام الحالي إلى 14.92 في المئة، ولكنها لا تزال أدنى من النسبة الدنيا التي حددها البنك المركزي السوري للنشاط الاقراضي والتي يجب ألا تكون أقل من 30 في المئة كسيولة مصرف بالليرة السورية.
وجاء هذا الاعلان في وقت كان فيه اصحاب المشاريع الصناعية المتوسطة والصغيرة يستعدون لتنفيذ موافقة البنك المركزي مؤخراً على تمويل تشغيل مشاريعهم، من دون معرفة وجود آلية واضحة حتى الآن حول طريقة التمويل والجهة الممولة، وفي ظل غياب كامل لدور المصرف الصناعي علماً بأنه الجهة المسؤولة عن التمويل الصناعي.
ويعاني المصرف من أزمة الديون المتعثرة، إذ بلغ عدد المتعثرين لديه نحو 11206 متعاملين، ولكن في المقابل بلغ عدد الذين تمت جدولة ديونهم 925 متعاملاً، وقيمة القروض المجدولة 4.4 مليار ليرة، والمبالغ المسددة كدفعات حسن نيه 375 مليون ليرة، كذلك بلغت نسبة التسويات إلى القروض الملاحقة فقط 9%.
مواقع