طالت، في سورية، الأزمة، الحرب، الثورة، الانتفاضة، المذبحة… إلخ، سمّها ما شئت. طالت أكثر مما قدّرت أكثر التوقعات تشاؤماً، وتوغلت في الدم والحاجة إلى حدودٍ فاقت كل توقع. نعم، تُخرج الأزمات، الحروب، الثورات أجمل ما في الإنسان من تضامناتٍ، فهي لحظة تاريخيةٍ فارقةٍ وتحولية، يسعى أجملنا إلى المساهمة في دفع هذه التحولات إلى المواقع المرغوبة، من خلال دعم الساعين إلى التغيير بالوسائل المالية، أو بدعم الفئات الأكثر حاجةً بين كتلة العائلة القريبة أو الأصدقاء الأقرب لاستمرارهم بالعيش بكرامة. يستحق المستقبل هذه الوقفة وهذا الانحياز، ويستحقّ، كحد أدنى، دعم هذه المتغيرات، هذا مما لا شك فيه، فالحلم بسورية أخرى بات في متناول اليد. كل من يعرف سورية، يعرف قصصاً من تضامن العائلات والأصدقاء لا تصدّق، قصص فيها من الإيثار ما يجعلها نموذجاً استثنائياً في الوفاء، ففي مواجهة الموت والحاجة، هناك دائما ما هو استثنائي في العلاقات بين البشر.
الامتداد الزمني الطويل للحدث السوري، قلب المعادلة أكثر من مرة بين من يدعم، وبين من يحتاج إلى الدعم، هناك مقتدرون كثيرون قدموا الكثير، ليجدوا أنفسهم، في سياق عملية الطحن المستمرة، غير قادرين على إعالة أنفسهم، ما حوّلهم من داعمين إلى محتاجين إلى الدعم. هناك كثيرون ممن عاشوا بنفسٍ عزيزة طوال حياتهم، وكانوا نسيج وحدهم، عصاميين حتى العظم، لم يطلبوا من أحدٍ يوماً أي شيء، كسرتهم الأحداث، وأجبرتهم على طلب حاجتهم من آخرين، ولم يكن الآخرون قادرين على ردهم في أحلك الظروف. هناك عاملون في الخليج تعهدوا حماية عائلاتهم من الحاجة، بعد سنواتٍ وجدوا أنفسهم يفقدون عملهم، لم يعودوا قادرين على إعالة أنفسهم، وانضموا إلى المحتاجين الذين كانوا يعيلونهم. يقول صديقي المقتدر الذي ينحدر من منطقةٍ منكوبةٍ إنه أخذ على عاتقه إعالة كل إخوته وعائلاتهم الذين يعدّون خمساً وأربعين شخصاً، موزعين على ثماني عائلات، الذين فقدوا أعمالهم جميعا، وهو يعتقد أنه سيحتاج أن يصرف عليهم عشر سنوات مقبلة على الأقل. ويقول: لا أعرف إذا كنت أستطيع الاستمرار كل هذه المدة، لكني متأكّد، أنهم سيحتاجون إلى المساعدة سنوات طويلة، وفي هذه السنوات سيزداد عددهم، وهذا من سنّة الحياة، على الرغم من كل الأوضاع الصعبة التي ستعيشها سورية.
إذا كان هذا المثال قريباً إلى تقدير الواقع المقبل، بصرف النظر عن نتائج الصراع على الأرض، حتى لو سقط النظام اليوم، أو تم التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ، تحتاج إلى أكثر من عشرين عاما لتقف على قدميها، فكيف في حال استمرار التدمير الذي نراه، والذي لا يعرف أحدٌ متى يمكن أن يتوقف؟
هناك آخرون ممن تعهدوا أسرهم في الدعم، وجدوا أن القصة طويلة، وأن لا مجد لهم فيها، بعد أن استطالت كل هذا الوقت، وأخذوا ينسحبون من الوقوف إلى جانب عائلاتهم لأسبابٍ واهية، في وقتٍ يزداد وضع هؤلاء تدهورا.
يبدو أن الاستثمار الأفضل، في ظل الأوضاع اليائسة التي تعيشها سورية اليوم، هو هجرة العائلة، أو أفراد منها على الأقل، وعلى هؤلاء الناجين من “المحرقة السورية” تقع مسؤولية إعالة عائلاتهم التي ستبقى في سورية زمناً طويلاً. في تقديري، أن الأغلبية الساحقة من السوريين الذين سيبقون في سورية، أكانوا يعملون أم عاطلين عن العمل، سيبقون بحاجةٍ إلى مساعدة دائمة ومستمرة ودورية، سنوات طويلة ما بعد توقف التدمير في سورية.
كما أن الأزمات تخرج أجمل ما في الإنسان، ففي المقابل، تخرج أسوأ ما عند الآخرين، ولأن السوريين ليسوا شعباً من الملائكة، فإن حجم الصراع على الفتات بين المحتاجين صورة أخرى لاستطالة الأزمة السورية. أصدقاء وأقارب كثيرون عاشوا علاقاتٍ اجتماعيةً جميلة في ما بينهم قبل انطلاق الاحتجاجات في سورية، وجدوا أنفسهم، بسبب التهجير، يعيشون مجتمعين في أماكن صغيرة ضيقة، استمرار ضيق الحال بين الجميع جعلهم يصطدمون مع بعضهم على تفاصيل تافهة، والعلاقات القوية التي بين أشخاصٍ كثيرين عملت الأزمة وضيق الحال على تدميرها، وكانت هذه العلاقات أجمل ما في حياتهم. تقول ابنة أحد الأصدقاء، إنهم كانوا مجموعةً جميلة ومترابطة من الأصدقاء والأقارب قبل الاحتجاجات، أجبرتهم الأزمة على العيش المشترك في منزل واحد في جرمانا قرب دمشق، خرجوا جميعاً من تجربة العيش المشترك مختلفين ومتخاصمين، تحولت الصداقات القوية عداوة، ونميمة تجاه بعضهم البعض مستمرة.
الأزمة الطويلة، والتهجير والاقتلاع الجماعي، والإفقار المستمر، والقهر الواقع على الجميع، كل ذلك وغيره، دفع إلى متغيراتٍ هائلةٍ داخل المجتمع السوري، وداخل العائلة الواحدة في السنوات التي تلت انطلاقة الاحتجاجات، والتي خلفت آثاراً اجتماعية وصحية ونفسيةً، من الصعب الخلاص القريب منها. ليس كل السوريين اليوم أنفسهم الذين كانوا مطلع العام 2011، لم يتغيروا بفعل الزمن فحسب، بل تغيروا، بفعل هول الحدث العاصف والصادم الذي شهده بلدهم، والجريمة الكبرى التي ارتكبها النظام بحق شعبه، والجروح العميقة التي أوقعها في كل بيت سوري. لا يشبه السوريون اليوم السوريين الذين عاشوا في البلاد قبل الانتفاضة. تغير السوريون كما تغيرت معالم كثيرة في بلدهم، وكذا كثير من تكويناتهم وعلاقاتهم الاجتماعية. اختفى الشعب السوري الذي عاش في “مملكة الصمت” الرهيبة للنظام الأسدي. ولكن، لم يولد بعد شعب “جمهورية الحرية”. تبدو كل العوامل تلعب دوراً سلبياً في ولادة هذه الجمهورية، وفي الطريق الطويل المليء بالمآسي والصعاب، للوصول إلى هذا الهدف، كل شيء يتغير في سورية، بما فيها التضامنات الاجتماعية الجميلة التي أخذت في الانهيار، تحت الضغوط الهائلة للأزمة السورية. إنها التراجيديا السورية، تراجيديا إنسانية معممة، غير قابلة للرواية والتوثيق، بحكم اتساعها الهائل والمذهل.
العربي الجديد – سمير الزين