أدت التطورات المتلاحقة في سورية إلى نشوء تحولات جديدة في ديناميكية الصراع، ناتجة عن تغير المعادلات الميدانية بشكل واضح، وهو ما أوجد واقعا جديدا للموضوع السوري، بالنسبة لأطراف الصراع والقوى الداعمة لها، وخصوصاً تلك التي استثمرت فيه بكثافة على مدار سنوات الأزمة، وصاغت رهاناتها عليه، ملفاً أساسياً لتعزيز مواقعها الإقليمية والدولية.
روسيا وإيران، شركاء نظام الأسد الأساسيان في إدارة الصراع في سورية وعليها، هما الآن في وضع مربك. الأوضاع الجديدة لا تتناسب مع تصوراتهما لمآلات الأزمة، حيث تشكل التطورات الحاصلة هناك خسارة وازنة في صراع يعتبر بالنسبة لهما صفرياً، ولا يملكان هامش مناورة واسعاً حياله، لارتباطه بدرجة كبيرة بمشاريعهما الإستراتيجية في المنطقة، ونظرتهما له على أنه صراع جيوإستراتيجي في المقام الأول.
دقة الموقف وحساسيته تتمثل، بدرجة كبيرة، ليس بعدم قدرتهما على تقديم الدعم اللازم لعكس الهجوم على حليفهما، وتغيير المعادلة لصالحه، فعلى الرغم من ظروف البلدين الاقتصادية الصعبة، إلا أن إنفاقهما في سورية طالما جرى اعتباره إنفاق ضرورة واستثماراً استراتيجياً. وبالتالي، خروجه من منطق حسابات الربح والخسارة. تأتي المشكلة في جانب آخر، هو تحطم البنية التي يمكنها أن تستوعب المساعدات، وتوطنها في الجسد المتهرئ، إما بسبب دمار الجزء الأكبر من البنية التحتية للدفاع والأمن أو لانحسار المدى الجغرافي الذي باتت تسيطر عليه قوات الأسد، وهذا الواقع يحوّلها إلى قوة دفاعية صرفة، ضمن نطاقات معينة، وخصوصاً مع تزايد خساراتها المزايا الإستراتيجية المتمثلة في السيطرة على التلال وطرق الإمداد اللوجستي والمعابر الحدودية، وما يستتبع ذلك من حاجتها لأنماط معينة من الأسلحة والدعم، وعدم حاجتها لأنواع أخرى، لعدم فعاليتها مع الأوضاع والتموضعات المستجدة، ولعلّ ما يزيد من حدة هذه الإشكالية حالة الصراع التي بدأت تظهر بوضوح بين مكونات النظام، وفي مستوياته المختلفة، الأمر الذي ينذر بحصول تصدعات في جسمه، ويقلص بدرجة كبيرة النواة الصلبة، ويحصرها ضمن أجهزة وشخصيات محددة.
“لدى روسيا ما تدعيه من حقوق استثمارية واتفاقات دولية تضمن لها امتيازات في الساحل السوري“
غير أن هذا الواقع، في حال تكرسه، يبقى مفتوحا على احتمالات تراجع المنظومة القتالية للأسد، أكثر من إمكانية استعادتها خسائرها. وبالتالي، يلغي أي احتمالية مستقبلية، لإمكانية عودتها قوة مسيطرة على سورية، الأمر الذي يؤهلها للتحدث كسلطة شرعية، ويجعلها بمقاس طموحات إيران وروسيا اللتين استثمرتا بحجم مشاريع كبيرة، وليس بمقاس مليشيا طائفية محصورة في مناطق محددة.
أمام هذا التغيير في ديناميكية الصراع، ولمحاولة تعطيل الديناميات المتولدة، ستجد دوائر القرار في موسكو وطهران نفسها محصورة ضمن مساحة ضئيلة من الخيارات المربكة:
الأول: أن تعيد الدولتان تقديراتهما وحساباتهما، وتقتنعا بأن سورية ساحة صراع ونفوذ لأطراف عديدة، بحكم موقعها الجغرافي وتداخلاتها الإثنية والدينية. وبالتالي، من العقلانية تشجيع مبادرات السلام والدعوة إلى إجراء حوار وطني، يحفظ حقوق جميع المكونات والأطراف، وتقتنعا أيضاً بأنه ليس بالإمكان أكثر مما كان، غير أن هذا الخيار تقف دونه معوقات كثيرة، منها أنه ليس لدى نظام الأسد تصور واضح للانخراط في عملية سلمية، كما أنه وإن كان يضمن تماسكا نسبيا في حالة الحرب التي أصبحت مصلحة لأطراف كثيرة فيها، فإنه قد يتعرض للتصدع في حال تحوّله إلى السلم، من جهة أخرى فإن إيران أكثر الأطراف تأثيرا في النظام، لا يبدو أنها في وارد التراجع في الساحة السورية في ظل انخراطها في صراع إقليمي علني وبعد الضربة التي تلقتها في اليمن وعدم ضمانها لبديل يضمن مصالحها في سورية التي لم تعد تقتصر على الموقع الاستراتيجي بل تعدته إلى استثمارات تجارية في العقارات والأملاك العامة، ثم إن روسيا أيضا لديها ما تدعيه من حقوق استثمارية واتفاقات دولية تضمن لها امتيازات في الساحل السوري.
“بالنسبة لروسيا، يمكن أن تعمل على تعزيز دفاعاتها في مناطق النظام بشكل أكبر، بذريعة مسؤوليتها في حماية الأقليات“
الخيار الثاني: النزول، بشكل مباشر، إلى أرض الميدان، ليس لوقف حجم الخسائر على الأرض وحسب، وإنما من أجل إنقاذ النظام، وضبط الصراعات المتفلتة داخله، وإدارة المعركة بما يضمن عدم الخسارة الكلية بالحد الأدنى، وعلى الرغم من أن هذا النمط من الانخراط الكلي سيكون مكلفاً، إن بحساباته الميدانية المباشرة، لاضطرار إيران وروسيا إلى خوض حرب غير متماثلة، لا تتناسب وحروب الجيوش الكلاسيكية، أو لجهة الاعتبارات السياسية، كون الأمر سيتحول إلى حالة احتلال رسمي ومعلن، وإلغاء شرعية نظام الحكم نهائياً، وتدمير المؤسسات الوطنية، بما يجعل الخسائر الناتجة عن هذا الخيار أكبر بكثير من الأرباح المتوقعة.
الخيار الثالث: التكيف مع المستجدات الحاصلة، ومحاولة إعادة بناء ما أمكن من قوة النظام، وتدعيم مفاصله الفاعلة، وإبقاء حالة الاستنزاف وقتاً أطول، بالمراهنة على عامل الزمن، بانتظار حدوث متغيرات جديدة. وتقع ضمن هذا الخيار محاولة حزب الله إشعال معركة في القلمون، من أجل تعويض بعض الخسائر وتقوية العزائم ورفع المعنويات المنهارة. ويقع ضمنها أيضا إعادة جزء من الكتائب العراقية التي غادرت سورية لقتال داعش، وترك مهمتها في العراق لقوات التحالف. وبالنسبة لروسيا، يمكن أن تعمل على تعزيز دفاعاتها في مناطق النظام بشكل أكبر، بذريعة مسؤوليتها في حماية الأقليات. وفي الوقت نفسه، دعم النظام بأنماط معينة من الأسلحة التي من شأنها إحداث تدمير أكبر في بيئة المعارضة، بما يؤدي إلى زيادة إنهاكها على المدى الطويل.
تشكل التغيرات الجديدة في سورية عكساً لحالة الهجوم الروسي الإيراني، المستمر منذ فترة، وتضعهما أول مرّة أمام خيارات صعبة، سيكون لها تداعياتها، ما يزيد من تعقيدات إدارتهما الصراع في الفترة المقبلة، والأهم أنه سيشكل إرباكاً إضافياً لحركتهما في البيئة الدولية المتعثرة أصلاً.
روسيا وإيران، شركاء نظام الأسد الأساسيان في إدارة الصراع في سورية وعليها، هما الآن في وضع مربك. الأوضاع الجديدة لا تتناسب مع تصوراتهما لمآلات الأزمة، حيث تشكل التطورات الحاصلة هناك خسارة وازنة في صراع يعتبر بالنسبة لهما صفرياً، ولا يملكان هامش مناورة واسعاً حياله، لارتباطه بدرجة كبيرة بمشاريعهما الإستراتيجية في المنطقة، ونظرتهما له على أنه صراع جيوإستراتيجي في المقام الأول.
دقة الموقف وحساسيته تتمثل، بدرجة كبيرة، ليس بعدم قدرتهما على تقديم الدعم اللازم لعكس الهجوم على حليفهما، وتغيير المعادلة لصالحه، فعلى الرغم من ظروف البلدين الاقتصادية الصعبة، إلا أن إنفاقهما في سورية طالما جرى اعتباره إنفاق ضرورة واستثماراً استراتيجياً. وبالتالي، خروجه من منطق حسابات الربح والخسارة. تأتي المشكلة في جانب آخر، هو تحطم البنية التي يمكنها أن تستوعب المساعدات، وتوطنها في الجسد المتهرئ، إما بسبب دمار الجزء الأكبر من البنية التحتية للدفاع والأمن أو لانحسار المدى الجغرافي الذي باتت تسيطر عليه قوات الأسد، وهذا الواقع يحوّلها إلى قوة دفاعية صرفة، ضمن نطاقات معينة، وخصوصاً مع تزايد خساراتها المزايا الإستراتيجية المتمثلة في السيطرة على التلال وطرق الإمداد اللوجستي والمعابر الحدودية، وما يستتبع ذلك من حاجتها لأنماط معينة من الأسلحة والدعم، وعدم حاجتها لأنواع أخرى، لعدم فعاليتها مع الأوضاع والتموضعات المستجدة، ولعلّ ما يزيد من حدة هذه الإشكالية حالة الصراع التي بدأت تظهر بوضوح بين مكونات النظام، وفي مستوياته المختلفة، الأمر الذي ينذر بحصول تصدعات في جسمه، ويقلص بدرجة كبيرة النواة الصلبة، ويحصرها ضمن أجهزة وشخصيات محددة.
“لدى روسيا ما تدعيه من حقوق استثمارية واتفاقات دولية تضمن لها امتيازات في الساحل السوري“
غير أن هذا الواقع، في حال تكرسه، يبقى مفتوحا على احتمالات تراجع المنظومة القتالية للأسد، أكثر من إمكانية استعادتها خسائرها. وبالتالي، يلغي أي احتمالية مستقبلية، لإمكانية عودتها قوة مسيطرة على سورية، الأمر الذي يؤهلها للتحدث كسلطة شرعية، ويجعلها بمقاس طموحات إيران وروسيا اللتين استثمرتا بحجم مشاريع كبيرة، وليس بمقاس مليشيا طائفية محصورة في مناطق محددة.
أمام هذا التغيير في ديناميكية الصراع، ولمحاولة تعطيل الديناميات المتولدة، ستجد دوائر القرار في موسكو وطهران نفسها محصورة ضمن مساحة ضئيلة من الخيارات المربكة:
الأول: أن تعيد الدولتان تقديراتهما وحساباتهما، وتقتنعا بأن سورية ساحة صراع ونفوذ لأطراف عديدة، بحكم موقعها الجغرافي وتداخلاتها الإثنية والدينية. وبالتالي، من العقلانية تشجيع مبادرات السلام والدعوة إلى إجراء حوار وطني، يحفظ حقوق جميع المكونات والأطراف، وتقتنعا أيضاً بأنه ليس بالإمكان أكثر مما كان، غير أن هذا الخيار تقف دونه معوقات كثيرة، منها أنه ليس لدى نظام الأسد تصور واضح للانخراط في عملية سلمية، كما أنه وإن كان يضمن تماسكا نسبيا في حالة الحرب التي أصبحت مصلحة لأطراف كثيرة فيها، فإنه قد يتعرض للتصدع في حال تحوّله إلى السلم، من جهة أخرى فإن إيران أكثر الأطراف تأثيرا في النظام، لا يبدو أنها في وارد التراجع في الساحة السورية في ظل انخراطها في صراع إقليمي علني وبعد الضربة التي تلقتها في اليمن وعدم ضمانها لبديل يضمن مصالحها في سورية التي لم تعد تقتصر على الموقع الاستراتيجي بل تعدته إلى استثمارات تجارية في العقارات والأملاك العامة، ثم إن روسيا أيضا لديها ما تدعيه من حقوق استثمارية واتفاقات دولية تضمن لها امتيازات في الساحل السوري.
“بالنسبة لروسيا، يمكن أن تعمل على تعزيز دفاعاتها في مناطق النظام بشكل أكبر، بذريعة مسؤوليتها في حماية الأقليات“
الخيار الثاني: النزول، بشكل مباشر، إلى أرض الميدان، ليس لوقف حجم الخسائر على الأرض وحسب، وإنما من أجل إنقاذ النظام، وضبط الصراعات المتفلتة داخله، وإدارة المعركة بما يضمن عدم الخسارة الكلية بالحد الأدنى، وعلى الرغم من أن هذا النمط من الانخراط الكلي سيكون مكلفاً، إن بحساباته الميدانية المباشرة، لاضطرار إيران وروسيا إلى خوض حرب غير متماثلة، لا تتناسب وحروب الجيوش الكلاسيكية، أو لجهة الاعتبارات السياسية، كون الأمر سيتحول إلى حالة احتلال رسمي ومعلن، وإلغاء شرعية نظام الحكم نهائياً، وتدمير المؤسسات الوطنية، بما يجعل الخسائر الناتجة عن هذا الخيار أكبر بكثير من الأرباح المتوقعة.
الخيار الثالث: التكيف مع المستجدات الحاصلة، ومحاولة إعادة بناء ما أمكن من قوة النظام، وتدعيم مفاصله الفاعلة، وإبقاء حالة الاستنزاف وقتاً أطول، بالمراهنة على عامل الزمن، بانتظار حدوث متغيرات جديدة. وتقع ضمن هذا الخيار محاولة حزب الله إشعال معركة في القلمون، من أجل تعويض بعض الخسائر وتقوية العزائم ورفع المعنويات المنهارة. ويقع ضمنها أيضا إعادة جزء من الكتائب العراقية التي غادرت سورية لقتال داعش، وترك مهمتها في العراق لقوات التحالف. وبالنسبة لروسيا، يمكن أن تعمل على تعزيز دفاعاتها في مناطق النظام بشكل أكبر، بذريعة مسؤوليتها في حماية الأقليات. وفي الوقت نفسه، دعم النظام بأنماط معينة من الأسلحة التي من شأنها إحداث تدمير أكبر في بيئة المعارضة، بما يؤدي إلى زيادة إنهاكها على المدى الطويل.
تشكل التغيرات الجديدة في سورية عكساً لحالة الهجوم الروسي الإيراني، المستمر منذ فترة، وتضعهما أول مرّة أمام خيارات صعبة، سيكون لها تداعياتها، ما يزيد من تعقيدات إدارتهما الصراع في الفترة المقبلة، والأهم أنه سيشكل إرباكاً إضافياً لحركتهما في البيئة الدولية المتعثرة أصلاً.
غازي دحمان – العربي الجديد