مضى نصف قرن على الهزيمة، وبدل أن تكون هزيمة الخامس من حزيران/يونيو جزءاً من الماضي، فهي لا تزال هنا، تصنع حاضرنا وترسم مستقبلنا.
خمسون عاماً كأنها الأمس أو اليوم!
كان ذلك يوم اثنين اذا لم تخنّي الذاكرة، وأمس (أي يوم كتابتي لهذا المقال) كان الأثنين أيضاً. منذ خمسين سنة، رقص الفتى المراهق الذي كنته في شوارع بيروت مع المتظاهرين وهو يهتف لناصر وجيش العروبة الذي بدأ حرب التحرير، وبعد ثلاثة أيام أصيب بالبكم وهو يرى نفسه يولد من جديد ابناً للهزيمة.
وبعد خمسين سنة يجلس الرجل الذي يشرف على شيخوخته كي يكتب عن الذكرى، فيكتشف انه ولد مرتين، في المرة الأولى ولد في عام النكبة، وفي المرة الثانية ولد وعيه السياسي معمداً بعار عام الهزيمة. وبعد هاتين الولادتين مات خمسين مرة في مسلسل تاريخ الهزائم والحروب والنكبات، وكان موته في الثاني من حزيران/يونيو 2005 حين قتلوا سمير قصير بداية الموت السوري الكبير الذي يحاصره.
كيف نقرأ الذكرى التي ترسم حاضرنا اليوم؟ وكيف نفتح صفحة جديدة عنوانها الأساسي تحليل البنية السياسية والعسكرية التي صنعت هزيمتنا المخزية، ولا تزال تتحكم بمصائرنا وتقودنا إلى هاوية الدمار الذاتي؟
في الشهر الماضي دعاني المؤرخ المصري الصديق خالد فهمي إلى إلقاء الخطاب الافتتاحي في ورشة عمل نظمتها جامعة هارفارد، في الولايات المتحدة. الدعوة إلى ورشة العمل حملت عنوان «خمسون عاماً بعد النكسة». توقفت في مداخلتي أمام كلمة «نكسة»، وهي شعوذة صكّها محمد حسنين هيكل وأراد بها حجب حقيقة الكارثة بكلمة تتحايل على الحقيقة عبر تصحيف كلمة «نكبة». جوهر مداخلتي كان محاولة لقراءة الهزيمة عبر نقد النظام السياسي الذي قاد إليها. أي تحليل الناصرية كانقلاب عسكري صنع قاموس الاستبداد الذي صاحبه الفساد، ودمّر احتمالات التغيير التي صنعها البعد الاجتماعي للناصرية، عبر صراعات أجنحة الطغمة العسكرية المخابراتية وفسادها وعدم شعورها بالمسؤولية. كانت مداخلتي التي كتبتها في بيروت، محاولة للتخلص من عبء الناصرية، عبر تحميل عبد الناصر بصفته رئيساً للجمهورية ونظامه الاستبدادي المخابراتي مسؤولية الكارثة، وابداء الاستغراب لنجاح الرجل في استعادة السلطة بعد استقالته، بفضل مظاهرات جماهيرية هائلة، خرجت لتطالبه بالبقاء في السلطة. اعترف أنني لم أفهم سر هذه الظاهرة، بل كنت ميالاً إلى التشكيك فيها واعتبارها جزءاً من قدرة المخابرات المصرية على قيادة الشارع.
لكنني كنت مخطئاً، اكتشفت خطئي على مدخل قاعة المؤتمر في هارفارد حين رأيت ملصق ورشة العمل الذي تصدرته صورة لعبد الناصر. في تلك اللحظة أحسست أن قلبي يعتصره الألم، وأن الرجل لا يزال يحتل مكاناً في وجداني، واحترت في أمري. هل أعبّر عن هذا الشعور في مداخلتي وكيف لي أن أجد مكاناً للمشاعر في نص عقلاني بارد يحلل وينتقد؟ وماذا أقول؟ هل اسقط في غوايته مثلما سقط الياس مرقص وياسين الحافظ، أم أفسر الهزيمة واصفاً إياها بأنها هزيمة حضارية مثلما كتب صادق جلال العظم في كتابه: «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، أم أتجاهل مشاعري؟
واليوم، وأنا استعيد لحظة الخامس من حزيران/يونيو، وأجلس على مشارف عمر الهزيمة الذي عشته، أشعر بأنني أستطيع أن أقدم اقتراحاً يساعدنا على فهم سرّ هذا الرجل والسحر المدمّر لكاريزما «الزعيم الخالد»، التي قادت العرب إلى هاوية الهزيمة المستمرة.
كان على عبد الناصر أن يمضي في التاسع من حزيران/يونيو 1967 إلى بيته، إذ لا يُعقل أن يقود زعيم شعبه إلى هاوية الهزيمة التي غطتنا وغطت الجنود بالعار والنابالم، ويبقى في سدة الرئاسة! لكن المصريين والجماهير العربية طالبوه بالبقاء في السلطة، مؤكدين ولاءهم لقائد أكبر هزيمة في تاريخهم الحديث!
لماذا خرجت الناس إلى شوارع الهزيمة حاملة صور ناصر وهي تهتف له كأنه انتصر ولم ينهزم؟
هناك سر في شخصية هذا الرجل تتمثل في قدرته على جمع النقيضين، فهو أبو الأمة وابنها في آن معاً. الضابط الشاب الذي يجسد شخصية الابن المتمرد، والزعيم الذي كبرت به الزعامة فصار أبا للأمة.
لو كان أبا فقط لسهلت عملية قتله. فمصير الآباء هو القتل الرمزي على أيدي أبنائهم، مثلما علّمنا فرويد.
ولو كان ابنا فقط لسهل قتله الرمزي على طريقة ابراهيم الخليل، أي قتله عبر استبداله بالخروف كي يفهم معنى الطاعة.
لكنه هذا وذاك، خطايا الأب تغفرها براءة الابن، وحماقات الابن تصححها حكمة الأب. فهو «المارد العربي»، كما غنى له فريد الأطرش، و«حبيب الكل» مثلما غنى عبد الوهاب، لكنه أيضاً «الملاح والعامل والفلاح»، حسب عبد الحليم حافظ. انه الأب الذي يحميه كونه ابناً، والابن الذي يشفع له كونه أباً.
صلاح جاهين كاتب أغنية أم كلثوم «راجعين بقوة السلاح» التي غنتها عشية حرب حزيران/يونيو انتحر يأساً، لكن «الريس» بقي في مكانه، وجعلنا نبتلع ابتذال المعنى الذي جسدته كلمة «النكسة».
صحيح أن ناصر مات بعد الهزيمة الحزيرانية بثلاث سنوات، وانه يمكن قراءة موته بصفته ثمناً كان لا بد منه، لكن موته كان للأسف أكثر فداحة من بقائه في السلطة. فالطفيليات التي نمت على جذوع الشجرة الناصرية، تحولت إلى اشجار مستقلة تستلهم تجربة الرجل لكنها لا تبقي منها سوى على فرعها الاستبدادي المخابراتي، من السادات إلى القذافي والنميري ومن صدام حسين إلى حافظ الأسد. فأضيف إلى كابوس الاستبداد الذي أفلت من عقاله كابوسي الخيانة وجنون العظمة.
تراجيديا الأب – الابن التي جسدتها شخصية عبد الناصر تقاسمها ورثته محولين الابن إلى وحش والأب إلى غول. من القذافي الذي كان ابناً متوحشاً فصار اباً متغولاً، إلى بشار الأسد الذي أضاف وحشيته السادية إلى تغول والده الدموي.
واليوم لا أستطيع قراءة الوحش الأصولي إلا من منظور إرث الهزيمة الحزيرانية، التي كانت باباً إلى الحروب الأهلية التي بدأت كتمرين صغير في لبنان لتتحول اليوم إلى مجزرة شاملة في سوريا والعراق وليبيا واليمن.
بارقة الأمل التي صنعها ميدان التحرير والانتفاضة الشعبية السورية، اطفأها أبناء وورثاء المؤسسة العسكرية المخابراتية التي تأسست عام 1952، والتي تواصل دفعنا، منذ خمسين عاماً، إلى قاع الهزيمة.
متى ننجح في قتل الأب والابن معاً، كي نستعيد قيم الحرية والديمقراطية، التي كان تغييبها السبب الرئيسي لكارثتنا المستمرة؟
المصدر:القدس العربي