يجمع المراقبون للمشهد السياسي في تونس على عدم استقراره بعد، وانفتاحه على تغييرات كثيرة، سواء تعلق الأمر بالتوازنات الحزبية أو بتقسيم السلطات والمسار الحكومي، أو حتى في ما يتعلق بالمؤسسات الدستورية والدستور نفسه. وبرزت على الساحة أخيراً دعوات جديدة لتعديل النظام السياسي في البلاد، وتغيير ما يسمى بالنظام البرلماني المعدَّل والعودة إلى النظام الرئاسي.
وبرغم أن النقاش حول هذا الموضوع لم يكن واسعاً ولم يلق التجاوب الكبير الذي ينتظره مطلقو المبادرة، “نداء تونس” أساساً، بسبب انشغال التونسيين بقضايا أخرى وملفات لا تنتهي، مثل العودة إلى المدرسة (موضوع مهم جداً اجتماعياً في تونس)، والانتخابات البلدية، وقانون المصالحة، وموازنة العام المقبل وما ستتضمنه من إجراءات جديدة، ومبادرة المساواة في الميراث وزواج التونسية من غير المسلم، وغيرها من الهموم اليومية، فإن التونسيين تعودوا على أسلوب الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، في تحريك المشهد السياسي، الذي يبدأ بإطلاق بالونات الاختبار وتمهيد الأجواء النفسية، ثم السياسية، لإنجاح مبادراته وأفكاره.
ولم يتوقف الرئيس التونسي عن التذمر من محدودية صلاحياته منذ تولى السلطة في عام 2014، منتقداً النظام السياسي الذي أفرزه دستور البلاد وأقره المجلس الوطني التأسيسي بعد الثورة. ورأى السبسي أنّه من الضروري إعادة النظر في النظام السياسي المعتمد حالياً، معتبراً أنه غير قابل للاستمرار، حسب تصريحه. وأكد، في حوار مع صحيفة “الصحافة”، أنّ ”الوقت حان لتقييم المنظومة السياسية الحالية وتدارك نقائصها، وتجاوز المطبات التي تضمّنها الدستور”، معتبراً أنّ النظام السياسي المعتمد شلّ العمل الحكومي أو يكاد، وأن ”طابعه الهجين لا يساعد الحكومة على القيام بواجباتها في تسيير الدولة”. ووصف السبسي النظام السياسي المعتمد في تونس بـ”الشاذ”، معتبراً أنّ الحرص على استقلالية المؤسسات بلغ حد التعطيل. وانتقد ما اعتبره مبالغة في الاستقلالية ومنح بعض الهيئات المستقلة صلاحيات استثنائية بلغت حدّ التغوّل على الدولة وعلى المؤسسات الدستورية ذاتها، بما فيها مجلس نواب الشعب صاحب السلطة الأصلية، وفق تقديره. وانتقد غياب أي رقابة على عمل الهيئات بحجة الاستقلالية، لتتحوّل المؤسسات السيادية، مثل مجلس النواب، إلى مجرد أجهزة لتزكية قرارات هذه الهيئات، وهو ما يعتبره ضرباً لمبدأ الفصل بين السلطات، على حد تعبيره.
لكن السبسي تعهد منذ أيام بعدم المبادرة إلى تعديل الدستور. وقال، في حوار تلفزيوني على القناة الرسمية، إنه في المقابل لن يمنع الأطراف السياسية المؤمنة بعدم جدوى النظام السياسي من المبادرة إلى اقتراح تعديله حسب القوانين الناظمة لهذا الأمر. لكن هذا التعهد لا يعدو عن كونه تفصيلاً صغيراً لا أهمية له، فالجميع يعرف أن السبسي هو من يدير الأمور ويوجهها، برغم حرصه على الشكليات الدستورية والسياسية التي يتقن إخراجها، وليس هناك فرق جوهري في أن يقترح بنفسه هذا الأمر، أو ينبع من ثلث مجلس النواب. لكن السجالات والنقاشات القليلة في هذا الموضوع، والوضع الحقيقي على الأرض، يدلان على أن هناك خللاً ما لا بد أن يعالج، وأن على النخبة السياسية التونسية أن تبدع حلاً يضفي مرونة أكثر على الحياة السياسية في البلد وعلى مؤسساتها الحاكمة، والبحث عن حل لمعادلة صعبة للغاية: كيفية التوفيق بين عدم العودة إلى دكتاتورية الرئيس من ناحية، وتقاسم السلطات، بحيث يتأسس مفهوم الرقابة المشتركة من ناحية أخرى، ومرونة القرار الذي يخدم الناس ولا يعطل مصالحهم في الوقت ذاته؟ لكن هل تهيأت النخبة السياسية لحوار من هذا النوع، وهل يمكِن في مناخ انعدام الثقة الواضح بحث مواضيع كهذه؟
في مقابل ذلك، كان لطفي زيتون، المستشار السياسي لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، اعتبر أن “النظام السياسي الحالي لم يكن نتاج دستور 2014، بل إن ملامحه تشكلت منذ صعود حكومة التحالف الثلاثي عقب انتخابات المجلس الوطني التأسيسي بعد ثورة 2011، بقيادة حركة النهضة، والمكلف آنذاك بصياغة الدستور الجديد”. واعتبر زيتون، أحد أهم منظري “النهضة”، أن هذا النظام “شبه الرئاسي شبه البرلماني” أنتج وضعاً أشبه ما يكون بوضع الجمهورية الفرنسية الرابعة، التي شهدت 21 حكومة، من 1948 إلى 1958، أي بمعدل حكومة كل ستة أشهر. وأضاف، في مقال صحافي، أنه “من حسن حظ الجمهورية الرابعة أنها جاءت في فترة شهدت قوة دفع اقتصادية عملاقة، أنتجها مخطط مارشال وطفرة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم ذلك لم تتحمل الجمهورية الرابعة عدم الاستقرار السياسي. فالتجأ الجميع إلى الجنرال شارل ديغول الذي وضع كشرط لرجوعه أن يتحصّل على كامل السلطات طيلة 6 أشهر، وأعطوه ذلك، لينتهي إلى إصدار دستور الجمهورية الخامسة الذي وسع صلاحيات رئيس الجمهورية وجعلها أكثر الجمهوريات الخمس استقراراً وامتداداً، باعتمادها على صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الجمهورية وصلاحيات رقابية كبيرة لغرفتي البرلمان”.
واعتبر مراقبون أن النظام السياسي في تونس يحتوي على تناقضات كبرى، فالرئيس منتخب مباشرة من الشعب، لكنه محدود الصلاحيات، والبرلمان منتخب من الشعب أيضاً وهو صاحب السلطة الأصلية لكنه محدود الإمكانيات ولا يملك سلطة رقابية حقيقية على باقي السلطات، عدا أسئلة شفهية للحكومة لا تؤثر فعلاً في الحياة السياسية، ونوابه لا يملكون حتى مكاتب للعمل فيها، وخبراء للاستعانة بهم في الملفات الدقيقة، وفي المقابل، فإن رئيس الحكومة، غير المنتخب من الشعب، يملك كل الصلاحيات ويتحكم بكل مفاصل الدولة. وبرغم هذه الحقائق، فإن كلام “الجبهة الشعبية” لا يخلو من بعض الصواب، لأن الواقع التونسي يثبت أن الرئيس هو الذي يعين رئيس الحكومة ويملك أغلبية في البرلمان، أي أنه ليس هناك في الواقع حواجز بين السلطات الثلاث تمنعهم قانونياً وفعلياً من إحداث فرق في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. لكن الواقع يبين أن هناك فشلاً واضحاً على هذه المستويات، ما يعني أنه لا بد من حوار واسع لفهم أسباب الإخفاق، وإن كانت بالفعل دستورية أم أنها في مكمن آخر.
العربي الجديد