يحملها الحنين إلى ذكريات محاطة بورود التمني يكاد بريقها يخطف شغاف القلب ويرميه في بحر الأحلام.. خيال تحمله أم أيهم، وصور تخبئها داخل روحها المستكينة، وتنهيدات وتين قلب مؤلمة أبت أن تفارقه.
خطفت منها الحرب ثغريين باسمين في عنفوان شبابهما، تقلب الصور وتسرح في عالم الماضي، فالحاضر موجع والمستقبل معتم في غياب الأحبة.
تحت وطأة القصف في عام ٢٠١٦ تحسبه بركانا ثائرا لشدته، يعم بلدة الهبيط في ريف إدلب فلا يسمع على أرضها سوى انفجارات صواريخ الطائرات .. وداخل ملاجئها أنين الكثير من الأرواح المتعبة الآملة بانتهاء هذا الجحيم الذي قتل بريقها.
هدوء يعمّ البلدة ومحاولة نسيان مؤقت، كمسكّن للآلام بل بمثابة وقتٍ مستقطعٍ من كل مايؤرق القلوب.. تتعالى صيحات الأطفال المرحة بين أزقتها العامرة بسكانها، وعلى ساحاتها الواسعة تقف مريم الشابة العشرينية بقوامها الممشوق وعينيها البنيتين الواسعتين محادثة أخاها أيهم، الشاب الثلاثيني والأب لثلاثة أطفال ” أخي ممكن توصلني عدكتور الاسنان تعبانة شوية” بقبولٍ حسن يرد عليها “اي تمام تكرمي اختي”.
هذا الحديث آخر ماسمعته أم أيهم المرأة من ولديها أيهم و مريم ..
تجلس أم أيهم، المرأة الخمسينية، في ظل شجرة الجوز جانب الملجأ، بقلب يشتعل نيرانا وقلق يكاد يخنقها. فعيناها تراقب عودة ولديها على جمر الانتظار …
هذا الانتظار لعودة فلذة كبدها يمزق روحها ويقض مضجعها، يشلّ حركتها كأنها مثبتة بسلاسل فولاذية تُضعف كيانها.
بعد أن يركن أيهم سيارته بجانب المنزل يقول صارخاً “”بسرعة مريم عالملجأ اجت الطيارة بسرعة” لم تكن كلماته هذه أسرع من الطائرة ملقية حمولتها الحارقة وكأن زلزالا غيّر الكون وأنهى معالمه..
صمت قاتل أرواح ضائعة دماء متناثرة و قلوب فارغة، وهمّ لايزول حتى لو توالت الأيام ومرّت السنون.
فارق أيهم ومريم الحياة وصعدت روحهما إلى السماء، لكن طيفهما يحيط بأم أيهم أينما حلّت، تستأنس بهما وتعيش على ذكراهما.
رحلا وتركا في قلبها ندبات لاتندثر ، والأصعب من ذلك تبحث عن مدامعها لتطفئ جذوة اشتياقها فلاتجدها..
الصمت حديث الفراق وعندما تفيض بأم أيهم ومضات شوقها يكون لسانه الدموع .. فراق أولادها جعل قلبها فارغا تائها كأنما الروح متعلقة بهما وحدهما وبصدى صوتهم، فلم تعد ترى سوى صور وجوههما.. والحياة بدونهما غربة فهم سُكناً لروح أم أيهم المشتتة.
فراقهما حزن كلهيب شمس يزيد نيران الذكريات فتستجيب المدامع لتُطفئ لهيبها دون فائدة.. ولكنها تخمد وتبقى شرارة تشعل ذكريات القلب وتُعيد سيرتها الأولى…
خيرية حلاق
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع