يلقى المعارض الروسي بوريس نيمتسوف حتفه في محاذاة الكرملين “على عينك يا تاجر”. هي رسالة “عفوية” للقاصي والداني أخطر ما فيها أنّها تظهر نوع المعادلة الحاكمة في امبراطورية البرّ المترامية الأطراف. “لا تقتربوا” تقول، بدم الاغتيال البارد. شرّع القتل في وسائل الاعلام الخاضعة للنادي الحاكم، وفي قنوات التعبئة المتفرعة عنه لشهور، على خلفية الحظر الاجتماعي لأي رأي مخالف في المسألة الأوكرانية داخل روسيا.
مهما كانت تعقيدات المسألة الأوكرانية، والابتذال المتفشي غربياً عند اثارتها وطمس حقيقة الصراع الأهلي، والمناطقي، والثقافي، المستعر بين شرقها وغربها، فإنّ ما حدث في موسكو لا يحتمل تعقيداً: “ديكتاتورية القانون” التي أطاحت ب”ديكتاتورية البروليتاريا” على رأس الامبراطورية الروسية، تظهر حقيقتها بوضوح.
يتمتع نظام الرئيس فلاديمير بوتين بشعبية غير قليلة في بلاده، لكنه لا يرتضي الاحالة الى هذه الشعبية كمرجعية تزيد وتكبر أو يجري تداولها. ثمة في المقابل شرائح لا يستهان بها كثيرة منزعجة لاستمرار هذا النظام لكنه لا يجمعها جامع، لا هي مقتنعة بالوجوه التي تعبّر عنها، ولا هي مقتنعة بالتضحية لأجل هذه الوجوه، ومنها نيمتسوف.
لا حظ لملف نيمتسوف الى محاكمة عادلة من أي نوع. في مكان ما، يذكر اغتياله بمصير الاشتراكي جياكومو ماتيوتي على يد عصابة تابعة للحزب الفاشي في بداية حكم الاخير بايطاليا، الأمر الذي ساهم في تجذير الفاشية. الفارق انّ ذلك حدث في بدايات الفاشية الايطالية، في حين يحكم بوتين روسيا منذ خمسة عشر عاماً. الفارق كذلك أن ملف ماتيوتي توبع مع ذلك قضائياً بجدية حتى في ظروف التسلّط الفاشي بايطاليا، ولا حظ لذلك في روسيا اليوم، وان بنيتو موسوليني لم يترفّع عن مسؤوليته المعنوية، رغم ان مؤرخين كثرا يؤكدون انه لم يكن له يد في قرار الاغتيال، في حين يتعامل الكرملين مع مصرع نيمتسوف كما لو كان مؤامرة عليه.
في مكان ما، تختلط الأمور. كما لو انهّ “النظام السوري” على مكبّر. في مكان ما، الدعم الروسي للنظام السوري شكّل واحدة من الحلقات التي جعلته أكثر قدرة على “التحلّي بمزايا الأخير”.
يأتي ذلك، فيما يلف النسيان قضية أخرى، اغتيالاً آخر، وقع في مثل هذا اليوم قبل ثماني سنوات. بل ان المعني بالموضوع، الصحافي والمراسل في الشؤون العسكرية والتسلّح، ايفان سافرونوف، لم يجر الاقرار بأنه اغتيل بالفعل، وميّع الملف على انه انتحر. كان منزله في الطابق الثالث من مبنى، ووجد مرمياً من الطابق الخامس. حدث ذلك بعد أن أزعج سافرونوف الدوائر النافذة بتقاريره كمراسل لصحيفة “كومرسان” الروسية عن صفقات تسليح نوعي تعقدها موسكو مع ايران وسوريا.
بين مصرع سافرونوف ومصرع نيمتسوف ثماني سنوات، وقد سبق ملف الاول بنحو سنة اغتيال الصحافية انا بوليتوفسكايا. هذا ينبه الى أمرين: الاغتيالات كأداة لتصريف الصراعات في النطاق الداخلي تستخدم اليوم في الدولة العظمى الثانية في العالم من حيث القدرات العسكرية، وليس فقط في دول العالم الثالث. الثقافة الحقوقية والقانونية التي أرستها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تمثل قيمة بحد ذاتها في هذا الاطار، كتجربة يؤسس عليها للتفكير في مقاربة أشمل لمسألة جرائم الاغتيال. فالجرائم بحق أفراد لا يجوز ان تهمّشها الجرائم ضد الجماعات، لأنه كما يظهر في العلاقة بين مسلسل الاغتيالات في لبنان ثم مسلسل التدمير الدموي في سوريا، فان هذا العنف يؤهّل لذاك. وبهذا المعنى، نعم، اغتيال نيمتسوف، ليس تهديداً للمعارضين الروس الاخرين فحسب، بل انه أيضاً تهديد للسلام العالمي.
وسام سعادة – المستقبل