قبل محاولة الانقلاب في يوليو/ تموز 2016، كنت قد أنهيت جولتي كباحث في إسطنبول. وحيث إنه لم يعد لدي سوى وقت قصير، حرصت على تكرار زيارتي للمقهى المفضل لي في ميدان تقسيم، وتناول المشروبات والتحدث مع الأصدقاء، وتناول شاورما الدوروم حتى الساعات المتأخرة. وفي إحدى تلك الليالي، كانت لي واحدة من المحادثات الأكثر قيمة من جولتي.
في تلك الليلة التقيت الشاب ليفانت الذي كان يمضي في إسطنبول إجازة 18 يوما من الجبهة الشرقية التركية، وهو المصطلح الذي استخدمه ليفانت لوصف الصراع التركي ضد حزب العمال الكردستاني. الصراع مع العمال الكردستاني هو صراع ملتهب اندلع منذ ثلاثة عقود راح ضحيته نحو 35 ألف شخص منذ أوائل الثمانينيات. وبسبب انهيار محادثات السلام في تموز/ يوليو 2015، يتم مناقشة المسألة الكردية بشكل منتظم في البرلمان التركي. الأخبار اليومية مليئة بإحصائيات الوفيات من الشهداء الوطنيين والمسلحين الأكراد على حد سواء. كان ليفنت في أوائل العشرينيات من عمره، طويل القامة، قوي البنية. رأيت علامات واضحة على أنه جندي، ولذلك عرضت عليه أن نتناول الشراب معا.
جاء ليفانت من إسكي شهير، وهي مدينة جامعية تقع غرب أنقرة، وهو الابن الأكبر لعائلته المكونة من أخ وأخت، ويمضي خدمة عسكرية إلزامية مدتها سنتان.
كان لدي كثير من الأسئلة لليفانت، أردت بالطبع أن أعرف أفكاره حول حزب العمال الكردستاني ، وسوريا والعراق، وتنظيم الدولة، وهي مجموعة من الأسئلة التي ربما لا يريد الحديث عنها.
أولا، يكره ليفانت الأكراد والروس والأمريكيين، بهذا الترتيب المحدد. ولم يكن ما أصابني بالحيرة كراهية الأكراد أو الروس، ولكن كراهية الأمريكيين. وبينما كنت أطلب مشروبا ثانيا، كان أول رد فعل لي هو أن أسأله: “لماذا تكره الأمريكيين؟” ولكنني ترددت وتركته يواصل الحديث.
وصف ليفنت بإيجاز العمليات ضد حزب العمال الكردستاني: البحث والتدمير والأرض المحروقة. لا شيء يتوهم. لم يتحدث عن فرق إعادة الإعمار أو التدريب، لا شيء من الأشياء التي أتيت لكي أعاينها بوصفها امتدادا طبيعيا للقتال، وخاصة في الصراعات ضد حركات التمرد. وغالبا ما يتم إغفال تهجير المواطنين الأتراك نتيجة هذه العمليات بسبب الصراع الأكبر في الجنوب في سوريا والعراق. إن القتال ضد حزب العمال الكردستاني يزعج أعدادا لا حصر لها من الأرواح التركية والكردية على السواء، ويعرف ليفنت ذلك. مهمة ليفنت صعبة، وهو أمر أعتقد أن الأمريكيين لا يستطيعون فهمه تماما ولم يفهموه منذ الحرب الأهلية. ومثل الصراع في جنوب تركيا، فإن حرب الاستنزاف الطاحنة هذه ستستمر لسنوات عديدة أخرى.
لا يحب ليفانت وظيفته، لكنه يؤمن بما كان يفعله، ويؤمن ببلده وأن ما كان يفعله في جبهة القتال هو الحق.
سألته أخيرا: “لماذا تكره الأمريكيين؟”.
فأجاب: “لأنهم يدعمون الناس الذين أقاتلهم”.
يدعم الأمريكيون الأكراد في شمال العراق وسوريا. إن العلاقة بين الأكراد الأتراك والأكراد العراقيين والسوريين علاقة قوية وعضوية بالطبع. والأكراد العراقيون والسوريون بالنسبة للأمريكيين هم أكثر القوى نجاحا وجدارة بالثقة على الأرض ضد تنظيم الدولة، وهذا أحد الأسباب التي تدفعهم إلى دعمهم. لكن الأمر الثاني هو التطور المهني والمادي للأكراد الأتراك الذين يقتلون الجنود الأتراك ويهددون الاستقرار التركي. لذا فإن دعمنا مثير للجدل في تركيا، على أقل تقدير.
سألته ما رأيك في تنظيم الدولة؟
حدّق بي ليفانت طويلا ثم قال: “لدينا مشاكل أكبر”. كانت إجابته بسيطة ولكنها بديعة أيضا في طريقتها. وبينما أخذت رشفة من الشاي، راودتني فكرة أن صناع القرار لدينا في الولايات المتحدة قد يطلقون في بعض الأحيان تفسيرات أنيقة مماثلة لتحديد أولويات أهدافنا الوطنية.
بالنسبة إلى ليفنت، فإن أهم نزاع ليس ضد تنظيم الدولة بل ضد حزب العمال الكردستاني. ويعتقد أن المعركة ضرورية لمستقبل بلاده. لديّ صعوبة في استيعاب ما هو كفاح الواجب، وماذا يمكن أن يؤدي إليه من حيث القوة القتالية والإرادة الوطنية. نحن لم نخض معركة انطلاقا من الضرورة البحتة منذ وقت طويل. الآن أفهم أنني كنت أتحدث فقط مع جندي صغير لا يمثل بالضرورة موقف الجيش التركي بأكمله أو الحكومة أو الشعب التركي، لكنه كان لمحة لا تقدر بثمن عن الدافع والأولويات عند أحد الحلفاء.
ترك برس