من الصعب الوصول إلى تعريف دقيق للموقف العسكري في حلب اليوم، مع تضارب الأنباء وانحياز الفضائيات ووكالات الأنباء لأحد أطراف الصراع هناك.
لكن من الواضح أنّ هناك إصرارا روسيا- إيرانيا شديدا على إغلاق الثغرة الحيوية التي فتحتها المعارضة في جنوب حلب، ومحاولات من المعارضة للحفاظ على مكتسب فك “طوق حلب”، بالرغم من القصف الروسي العنيف.
يعلّق بعض المحللين نتائج ما يحدث في حلب على ما جرى في قمّة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، في بطرسبيرغ (أول من أمس). وتُبنى فرضيات عديدة حول نتائج القمة. وذلك من وجهة نظري سابق لأوانه، فما تزال العلاقة بين الدولتين (بعد اعتذار أردوغان والموقف الروسي الإيجابي معه ضد محاولة الانقلاب الفاشلة) في طور الاختبار وجسّ النبض.
من دون استباق نتائج المحادثات المتوقعة القادمة بين المسؤولين العسكريين والأمنيين في البلدين، كنتيجة لتطبيع العلاقات بينهما، فإنّ الموقف الروسي لم يتغيّر تجاه ما يحدث في سورية، بل يتجذّر في دعم الأسد وتعزيز التعاون معه. وردّ الفعل الراهن على ما حدث في حلب من قصف عنيف على المدينة كما إدلب، هو دلالة واضحة على أنّ الروس ليس فقط لن يسمحوا بسقوط الأسد، بل يعملون على استثمار الظروف الإقليمية والدولية الراهنة لإعادة “ترميم طوق حلب”، وفرض الاستسلام على الأهالي والمعارضة هناك، ما ينهي جزءاً كبيراً من المعارضة السورية، ويعزز من مصادر قوة النظام عسكرياً وعلى طاولة المفاوضات.
ما تغيّر جوهرياً هو الموقف التركي من الأحداث في سورية. صحيح أنّ محاولة الانقلاب الفاشلة مثّلت “نقطة تحول” لم تبدأ آثارها بالبروز بعد في السياسة الخارجية التركية بصورة واضحة، لكن إرهاصات هذا التحول بدأت قبل ذلك، وبدت علاماتها مع اعتذار أردوغان لبوتين وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ثم جاءت محاولة الانقلاب لتعزز شعور الرئيس التركي بالعزلة وهواجس المواقف الأوروبية والأميركية التي لا تشعر بالراحة في التعامل معه، مع بروز الصدع الداخلي العميق.
لا يقتصر دافع التغير التركي على أنّ أولوية أردوغان اليوم هي إعادة ترتيب البيت الداخلي، ومواجهة المعركة المصيرية مع خصومه، بخاصة حركة فتح الله غولن، بل يشمل أيضاً محدودية خيارات الرئيس التركي فيما يتعلق بتحالفات تركيا الخارجية. وبات شعوره العميق هو أنّ بوتين يمكن بالفعل أن يكون حليفاً له في مقابل المراوغة الغربية، وما يعتبره خداعاً أميركياً.
ذلك لا يعني أنّ أردوغان وتركيا سيبيعان المعارضة السورية هكذا، لكن المقصود هو أنّ الموقف التركي أصبح أكثر تعقيداً تجاه الوضع السوري. فهو مع رغبته في الحفاظ على المعارضة السورية، لأسباب متعددة، استراتيجية وشخصية (لها علاقة بأردوغان وحزب العدالة والتنمية) إلاّ أنّ ذلك سيتم لاحقاً مع تجنب المواجهة المباشرة مع الروس، وفي محاولة لتحييد الملف السوري عن تطوير العلاقات الروسية-التركية.
المعضلة في هذا المسار التركي الجديد تكمن في صعوبة تحييد الملف السوري، ورغبة بوتين الشديدة في إنهائه عسكرياً وتحقيق تسوية تخدم أهدافه في أقرب وقت، بل ومحاولة استثمار الضعف التركي الحالي لتعزيز المعركة العسكرية.
هذه التطورات انعكست على مجريات معركة حلب. وبغض الطرف عن تقييم الدور التركي، فمن المؤكّد أنّ فرض الحصار على حلب ما كان ليتم ابتداءً لولا تراجع الدور التركي، حتى وإن كان البعض يشير إلى دور غير مباشر لفك الحصار لاحقاً. لكن بلا شك فإنّ الأيام المقبلة كفيلة بتقديم مؤشرات أكثر قوة حول الدور التركي، مع عودة الجبهة إلى الاشتعال، فما تزال “معركة حلب” اختبارا مهما لكثير من التطورات في الحالة السورية.
الغد الأردنية