بعد هجوم مباغت، نجح جيش الفتح، بالتعاون مع غرفة علميات فتح حلب، في إحداث ثغرة هامة في طوق الحصار المحكم المفروض على مدينة حلب منذ أواخر الشهر الماضي (يوليو/ تموز). ومثّل هذا الهجوم نقطة فارقة في مسار الحرب السورية، بعد التدخل الروسي الذي غير معادلات الصراع، وأضفى بعدا مغايرا في تفاعلاته الدوليّة لصالح النظام وحلفائه. تناولت مقالات عدة أهمية المعركة الأخيرة للمعارضة السوريّة، لكنّ قليلاً منها ركز على تداعياتها على النظام واستراتيجيته، لا سيما وأنها كانت أول خسارة حقيقية للنظام في حلب منذ يوليو/ تموز 2012.
لا تخفى على مراقب الأهمية الاستراتيجية لمدينة حلب، فعدا عن أنها العاصمة الاقتصاديّة لسوريّة، فإن قربها من الحدود التركيّة أكسبها مكانةً خاصةً في حسابات المعارضة والنظام. على هذا الأساس، كانت حلب حاضرة دائماً في استراتيجية النظام، منذ اندلاع المظاهرات السلمية عام 2011، وقد عمل جاهدا على عزلها عن الحركة الاحتجاجية وتحييدها باستخدام شتى الوسائل القسرية والناعمة.
ومع أن المدينة شهدت مظاهراتٍ محدودة، فإنها ظلت عصية، باستثناء أحيائها الطرفية، أمام أي اختراقٍ ثوريّ، وذلك بخلاف أريافها التي احتضنت المظاهرات والعمل المسلح من بعده. ولمّا فشلت كل المحاولات، قرّرت فصائل الريف الشمالي تثوير المدينة، وإدخالها بالقوة في معادلة الثورة، عبر هجوم عسكري، اكتسح نصفها الشرقي في يوليو/ تموز 2012، لكنه توقف على أبواب قلعتها القديمة.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت حلب في قائمة أولويات النظام عسكريّاً، لتخوفه من تكرار سيناريو بنغازي إبّان الثورة الليبية على معمر القذافي. وبخلاف تكتيكاته القتالية المتغيرة والمتبدلة، اعتمد النظام فيها استراتيجية عسكريّة احترافية في حلب، مستفيدا من تدخل حزب الله، وأطلق أواخر عام 2013 عملية عسكرية طويلة المدى، سميت “دبيب النمل” هدفت إلى استعادة حلب وريفها بالتدريج، من دون أن يضطر إلى زجِّ أعداد ضخمة من القوات، لتحقيق حسم عسكريّ شامل.
حققت هذه الاستراتيجية نجاحاتٍ مهمة، إذ استطاعت قوات النظام في أكتوبر/ تشرين الأول 2013 السيطرة على بلدة خناصر الاستراتيجية، وفتحت طريق إمدادٍ التفافي، يمر بالأحياء الجنوبية لمدينة حلب (الراموسة) ويصل إلى قسمها الغربي، حيث تتموضع قواته. ولما تحقق له ذلك، بدأ خلال عام 2014 معركة ثانية، استولى فيها على المدينة الصناعية والشيخ نجار، واتخذهما قاعدة للانطلاق شمالاً إلى مناطق المعارضة في باشكوي وحندرات ومخيم حندرات، ليصل بعد عامين إلى طريق الكاستيلو، ويفرض الحصار الكامل على المدينة أواخر يوليو/ تموز 2016.
وعلى هامش المعركتين السابقتين، حصلت معركة روسية إيرانية في ريف حلب الشمالي، لم يكن للنظام أي دور حقيقي فيها. فبعد إسقاط تركيا مقاتلة روسية، في نوفمبر/ تشرين الأول 2015، سعت موسكو إلى عقاب تركيا عبر عزلها بشكل كامل عن الشمال السوري.
وتقاطعت الأهداف الروسية مع مساعي إيران إلى فك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين. لذلك، زجّت الأخيرة رسميا حرسها الثوري في المعركة إلى جانب المليشيات العراقية والأفغانية، واستثمرت روسيا في قوات الحماية الكردية المعادية لتركيا، وأمنت لها غطاء جوياً مكّنها من السيطرة على بلدة تل رفعت، وكادت تصل إلى أعزاز، لولا التدخل المدفعي المحدود للجيش التركي.
من جهة أخرى، حاولت إيران، بقرار ذاتي خارج حسابات النظام وروسيا، السيطرة على ريف حلب الجنوبيّ، والوصول إلى طريق حلب – دمشق الدولي، بالقرب من مدينة سراقب، والتوغل في محافظة إدلب لفك الحصار عن بلدتي كفريا والفوعة ذات الأغلبية الشيعية، والقضاء على تجربة جيش الفتح الذي سيطر أوائل عام 2015 على محافظة إدلب، لكنه نجح في الربع الثاني من 2016 في صد الهجوم الإيراني، واستعاد السيطرة على بلدة خان طومان الاستراتيجية، ما كان المرحلة الأولى في فك الحصار عن حلب، فعبر هذا الريف المتصل مع محافظة إدلب، سارت تعزيزات جيش الفتح، لتصل إلى التخوم الجنوبية لحلب، حيث المواقع العسكرية المحصنة (مدرسة الحكمة، كلية المدفعية، الكلية الفنية) والتي تساقطت، الواحدة تلو الأخرى، أمام زخم الهجوم وقوته.
من المبكر لأوانه القول إن معركة حلب غيرت موازين القوى، أو قلبت معادلات الصراع العسكرية والسياسيّة، لكن المؤكد أنها أفشلت استراتيجية “دبيب النمل” الناجحة التي اعتمدها النظام على مدار السنوات الثلاث الماضيّة، وحجّمت النفوذ الإيراني خارج مناطق العاصمة والقلمون، وبعثت رسالة مباشرة إلى روسيا مؤداها: استحالة إنهاء الصراع عسكريّاً لصالحها.
العربي الجديد – حمزة المصطفى