ليس عاديّاً أن يكون اسم جمال سليمان للوهلة الأولى عنواناً لحوار سياسي، كونه “الكايد أبو صالح” في “التغريبة الفلسطينية”، و”صقر قريش في عبد الرحمن الداخل”، و”عادل في الفصول الأربعة” وغير ذلك من الأدوار التي لعبها الفنان في التلفزيون أو المسرح ورسخت في أذهان السوريين والعرب، لكنّه جمال سليمان في “الفصل الخامس” الذي خلقته الثورة السورية منذ عام 2011، به تظهر الشخصيات هكذا بلا رتوش كما يرى خبراء يصفون الثورة بالكاشفة.
“أنا سوريّ قبل أن أكون فناناً”، يقول سليمان إجابةً على سؤال كثيرين قالوا له: ما لك وللسياسة، مردفاً تأكيده أن موقفه ليس سياسيا باعتبار أنّ ما يجري في “بيته” وهو سوريا حريق كبير لا يمكن حياله اتّخاذ الحياد، إذاً هو موقفٌ “أخلاقي” يقول الرجل.
في مطبخ التحرير، يستذكر المحرّرون أدوار سليمان، يقول أحدهم إنّ لكل ممثّل من أدواره نصيب، وها هو سليمان يدخل التغريبة السورية كما لو أنّه “أبو صالح” في سابقتها الفلسطينية، مع فارقٍ بالأدوات، أدوات خارج النص المكتوب، وفي عمق النص المتمنّى، وهنا قد يختلف معه البعض وقد يتّفق آخرون.
وسليمان عضو في هيئة التفاوض السورية، شارك في عدد من جولات التفاوض في جنيف و هو أيضا عضو في اللجنة الدستورية التي بدأت أعمالها في جنيف أواخر العام الماضي، وأفشل النظام السوري جولتها الثانية و هي اليوم في علم الغيب.
من المسجد إلى الفن الملتزم والعمق اليساري
العلاقة بين السياسة وسليمان ترتبط بتكوينه الثقافي منذ نعومة أظافره، فهو الطفل الذي قرأ كتب الكبار، وحرم من قصص الأطفال، بتوجيه من والده الذي تعلم على يد شيخ القرية ولاحقاً من الكتب، لا من المدارس.
يقول سليمان: كنت في طفولتي تحت تأثير والدي المولع بالقراءة. لم يحب أن يراني أقرأ قصص الأطفال بل كتب الكبار في الشعر العربي و الأدب كطه حسين و العقاد و لاحقا في السياسة.
ويضيف بأنّ والده كان من جيل القوميين العرب الذين برزوا في تلك الفترة، لدرجة أنه وسمه باسمه تيمّناً بالرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر الذي حكم مصر وسوريا في زمن الوحدة.
وعن علاقته بالمسجد، أوضح سليمان أنّ بيته الكائن في بستان الحجر في دمشق، كان يبعد أقل من 100 متر عن مسجد زيد بن ثابت الأنصاري، وهذه المسافة كانت ربّما من الأسباب التي جعلته تلميذاً في هذا المسجد.
في المراهقة، غادر سليمان المسجد منتقلاً إلى فضاء الرياضة والفن على حدّ تعبيره، حيث أصبح عضوا بفرقة مسرحية. وخلافاً لجو المسجد والحارة، كان السائد في الفضاء الجديد هو الفكر اليساري، حيث أنّ الفرقة المسرحية ضمت شباناً فلسطينيين وسوريين يساريين، معظمهم أكبر منه عمراً.
جو مفعم باليسار متجسّدا بأشعار محمود درويش و نيرودا و لوركا وروايات غسان كنفاني و مكسيم جوركي وغيرهم، عبّ منه الفنان ما شاء له الهوى أن يعب، قبل أن ينتقل إلى المعهد العالي للفنون المسرحية حيث كان يشار إلى الأساتذة لا باختصاصاتهم العلمية فقط بل بانتماءاتهم الأيديولوجية أيضا..
وينهي حديثه في هذا السياق بالقول: إنّ المناخ الذي نما به كان فكريا مشبعا بالسياسة، عزز عنده مفهوم المثقّف العضوي، ذاك الملتزم بقضايا سياسية واجتماعية تشغل أبناء وطنه، و مفهوم الفن الذي يهدف إلى تفكيك الواقع المتخلف و تغييره. يعرف عن نفسه أكثر بأنّه: من أنصار الدين لله والوطن للجميع، ودولة العدالة الاجتماعية، والحداثة بنظم الدولة والاقتصاد والتعليم، ومن الذين يعتبرون أن هوية الأمة الثقافية مهمة جدا لدرجة أنّها تلي الخبز.
عندما ينتقل الحديث إلى الثورة السورية يقول: أنا رجل من المدافعين عن الحل السياسي، مدافع عن مؤسسات الدولة و لكنني مناهض لكل أشكال الاستبداد، ومؤمن أن الانتقال إلى الديمقراطية هو حبل نجاة سوريا و السوريين.
ما بين كيانات المعارضة المتباينة وخطاباتها إنْ في السياسة أو الميدان، لا يزال سليمان متمسّكا بصوته الذي ربّما وحّد النظام وجزءا من المعارضة على موقف واحد، ألا وهو رفضه.
ينوّه ضيفنا على أنّ مواقفه لم ترضِ لا النظام السوري و لاطيفا واسعا من المعارضة حيث يقول إنّ “النظام اعتبر كل ما يجري مؤامرة سيتم القضاء عليها في أيام أو أسابيع و كل من خالفه الرأي هو خائن. أما المعارضة فكانت تمني النفس باستلام مفاتيح القصر الجمهوري خلال بضعة أيام أو أسابيع و كل من خالفها الرأي في ذلك هو خائن للثورة . كلٌّ كان أسير وهم مدمر استعمل من أجله ماكينته الإعلامية التي كان هدفها الأول هو شيطنة المخالف أو حتى المختلف”، و يستذكر في هذا السياق حكاية القوائم البيضاء و القوائم السوداء، و تلفيق الأخبار و المعلومات من أجل ترهيب الآخر و تشويه صورته أمام الشارع السوري كي لا يتأثر بصوته.
إذاً هو صوت ثالث يزاحم في الساحة السورية، يشق طريقه بين بندقية وطائرة حربية،إلى مقر الأمم المتّحدة في جنيف، لكن كثيرين يرونه غير مجدٍ.
يوضّح سليمان: أسرتي وأصدقاء كثر يسألونني بأسف ماذا تفعلون باجتماعاتكم؟ وما جدوى تحرّكاتكم السياسة، أنتم خارج القصّة فهنا تسليح وهناك دعم وتشبّث بالحسم العسكري. رغم ما في سؤالهم من “وجاهة” على حدّ تعبيره إلا أن جوابه كان دائما: ” لابد من وجود سوريين أحرار لا يخضعون لأي أجندات خارجية على طاولة المفاوضات في جنيف و برعاية الأمم المتحدة.يجب أن يرى العالم أنه هناك سوريون يحبون وطنهم و يريدون الحل السياسي الذي ينقل سوريا من عصر الاستبداد و الفساد إلى عصر ديموقراطي، يجب أن لا نقبل بتكريس الصورة السائدة التي تقول بأن النظام في سوريا ديكتاتوري لكن خصومه إرهابيون متطرفون. يجب أن يعلم العالم بأن هذه الصورة غير دقيقة لأنها لم تشمل غالبية السوريين الذين يرفضون الإرهاب كما يرفضون الاستبداد”.
وزاد، أنّ الحل السياسي الذي يسعى ومن معه لإعلائه ينطلق من “تغيير الطبقة السياسية الحاكمة”، لأنّ”سوريا صعب جمعها مرة ثانية و تحقيق الاستقرار الأمني وفرض سيادة الدولة على كل سنتيمتر منها، بدون تغيير سياسي كبير، يتغير بموجبه رأس النظام”.
كما أن الحل السياسي يقتضي كل الجماعات المسلحة، وجمع السلاح ومصادرته، وإخراج كافة المقاتلين الأجانب،ومحاربة الإرهاب والقاعدة النظرية له المتمثلة والفكر المتطرف وخطاب الكراهية.
و يقر سليمان بأن العنف و التحشيد الإعلامي المتعدد المصادر و الهداف قد كرس انقساما اجتماعيا عميقا لكنه يؤمن أن المصالحة الوطنية بين مكوّنات الشعب السوري ممكنة إذا تحقق الحل السياسي و انتقلت سوريا الى النظام الديموقراطي الذي يعزز قيم المواطنة و المشاركة. عندها سيعرف السوريون أن الكرامة و الحرية و الازدهار و العيش الكريم هي ليست لطرف دون آخر بل للجميع بصرف النظر عن العرق و الدين و الطائفة أو القبيلة، و الجميع متساوون أمام القانون بما لهم و ما عليهم. و في هذا الصدد يؤكد سليمان على أن الفن و الخطاب الثقافي عموما يمكن أن يلعبا دورا بارزا ببناء الجسور بين المكونات لأن سوريا “صعب أن تنهض مرة أخرى بدون مصالحة وطنية”.
نسبة عالية من السوريين المعارضين من الذين شهدوا موت أو اغتصاب ذويهم من قبل عناصر النظام و”شبيحته”، آمنوا بعدم جدوى المظاهرات التي عمّت معظم المدن والقرى السورية عام 2011 بشكل خاص، سيّما مع استمرار القتل والتنكيل والاعتقالات من جانب النظام، واقتصار دور المجتمع الدولي على بيانات وقلق لا يغني ولا يسمن من جوع وفقا لما يقولون.
لكنّه (السلاح) كان وسيلة النظام لضرب الثورة، فهو أول من أتاحه، بحسب ما نقل سليمان عن مصادر تحدّثت له عن مجريات التسليح في بدايته، تماماً كما فعل مع الإسلاميين الذين أطلقهم من سجونه بمراسيم عفو فيما استمر باعتقال الشبان السوريين المدنيين الليبراليين الذين طالبوه بالإصلاح!
وأبرز لاءات سليمان هي: لا للسلاح، لا للتدخل الخارجي، لا للتبعية لأي حزب سياسي خارج سوريا، لا للتغيير الديمغرافي، لا للاستبداد بكل أشكاله، لا لخطاب الطائفية والكراهية والتحريض على العنف، لا للإرهاب وقاعدته الفكرية…
وفي عمق الحديث عن السلاح، تساءل سليمان: “هل حمل السلاح حمى الناس؟ هل حمى الثورة السورية؟ الجواب للأسف لا. على العكس من ذلك السلاح أفقد الثورة استلالها و بالتالي أهدافها. إن تسليح الثورة و أسلمتها أصابا الثورة في مقتل ” لا أعتقد أن الثورة قامت لأن المسلمين في سوريا أقلية مضطهدة، الثورة قامت من أجل الحرية و الكرامة و القضاء على التسلط و الفساد”.
واستذكر سليمان حوارا بينه وبين أحد الأشخاص حيث قال له الأخير ” أبو محمد (جمال سليمان) لو أن أحدا أطلق النار على ابنك لا قدّر الله فماذا تفعل؟ هل تحاوره أم تحمل سلاحا ضدّه؟” سؤال صعب وجد سليمان صعوبة في الإجابة عنه، وهو بهذه النقطة لا يحمّل الناس المسؤولية، بل النظام، كما أنّه يلوم النخب السياسة التي شجعت حمل السلاح و هللت للجماعات المسلحة بصرف النظر عن خطاب و خلفية كثير من قادتها. “لم تستطعهده النخب أن تستشرف المستقبل و انعكاس التسليح على القضية السورية، بنوا حساباتهم على أنها قضية أسابيع و سينتهي كل شيء على يد المسلحين أو ( على الأغلب) على يد التدخل العسكري الخارجي. لقد كنا منذ البداية ضد هذه الحسابات و نحن اليوم نسمع مراجعات شخصيات مؤثرة تقول بأن تقديراتها كانت خاطئة”.
وأكّد سليمان أنّ كلامه “لن يلقى القبول الايجابي لدى كثيرين، لكن أنا أؤمن أنّ الثورة المدنية ستبقى تاريخيا أقوى بكثير من الثورة التي تحمل السلاح”، وأنّ السلاح يفقد الثورة استقلالها عن الإملاءات و الأجندات الخارجيةالخارجية.
النظام يرفض الحوار والائتلاف أعطاه فرصة ذهبية
عن التوسعة التي أجراها الائتلاف في 2014 و ضمت شخصيات ليبرالية هو واحد منهم يقول سليمان إنه‘اعتذر عن المشاركة و لم يشارك بأي اجتماع للائتلاف، موضحا أن السبب ناجم عن شعوره بأنّ الائتلاف كان وقتها يمشي في طريق معاكس لقناعاته، كان غالبية أعضاء الإئتلاف يومها ما زالو يؤمنون بإسقاط النظام عسكريا، لذلك لم تكن جنيف و مفاوضاتها و لا الأمم المتحدة خيارهم الأول و هم بذلك التقوا في نفس النقطة مع النظام الذي كان أيضا – و مازال – يعتقد بأنه لا حل إلا الحل العسكري”.
حيث أن النظام “يعتقد أن أي كارثة تحدث هي أهون عليه من الجلوس إلى طاولة التفاوض مع أي مواطن سوري لأنه لا يرانا كسوريين إلا مجرد أغنام في المزرعة ويجب أن نطيع العصا التي توجهنا إلى هنا أو هناك، ونرعى بالأرض التي يقررها هو”، وزاد أنّ الأيام والتجارب وآخرها موضوع اللجنة الدستورية أثبتت أن النظام لا يريد الدخول مع أكثر السوريين اعتدالا بأي مفاوضات من أجل إنقاذ سوريا وشعبها. لذلك كان النظام قبل كل جولة مفاوضات يصعد عنفه ضد المدنيين دافعا المعارضة أن تعفيه من الحرج و ترفض هي التفاوض”.
و إذا كان الأمر كذلك فما جدوى السعي وراء العملية السياسية التفاوضية؟ يجيب سليمان بأنه لا يوجد أي يقين في المسألة السورية إلا يقين واحد و هو أن النظام القائم لن ينجح في إعادة سوريا ما قبل ال 2011 و بالتالي هو خسر معركته و سيكون مجبرا على التفاوض في لحظة ليست بالبعيدة. مازال هناك أمل و إن حجبه دخان الحرب التي لابد ستنتهي قبل أن تتحول إلى حرب إقليمية كبرى.
نقلا عن: بروكار برس