إنها الحرب يا صديقي، لا تبقي ولا تذر. لا تفرّق بين الحق والباطل! تبتلع خصومها وتساوي بالموت بين الضحية والجلاد، ليخرج الجميع منها خاسرين.
عرفته مع بداية انطلاق الثورة. أيام المظاهرات السلمية في حلب. كان شاباً خلوقاً مندفعاً لا يتوانى عن تقديم المساعدة بكل حب للنازحين من مناطق قصف النظام في حمص وجبل الزاوية وغيرها من المناطق التي قصف بوحشية آنذاك.
سيف من حلب “30عاما”، متزوج ولديه ثلاثة أطفال بعمر الزهور، ميسور الحال، كانت مقولته الدائمة: “ثورتنا ماهي ثورة خبز وجياع.. ثورتنا مشان الحرية والكرامة”.
عمل دون كلل أو ملل في خدمة النازحين وإسعاف جرحى المظاهرات وفي تنظيم المظاهرات وتجهيز اللافتات والحماية للمتظاهرين، يعتلي أكتاف الثائرين معه، تصدح حنجرته بهتافات الحرية والخلاص من الظلم والاستبداد، اعتقلته قوات الأمن وخرج بعد مدة ليكمل حلمه الثوري، حتى تحررت الأحياء الشرقية من مدينة حلب ليكمل واجبه الثوري. سواء بإسعاف الجرحى أو مساعدة النازحين، وصولاً إلى تصديه لجيش النظامِ على الجبهات.
بمشاعر مختلطة بين فخرٍ وحزن يتحدث محمد “صديق سيف” عنه قائلاً: “من وقت عرفته كنت قلو أنت مشروع شهيد.. عنفوانه وحماسه واندفاعه لنصرة الحق كان يوقعه بكتير مشاكل.. كان مايرضى الضيم ع حدا وهمه يألف بين قلوب رفقاته حتى يحافظ على الثورة وأهدافها اللي طلعنا مشانها.. بس خفافيش الظلام ماخلت للشرفاء مطرح”!
بعد عدة معارك مع النظام، أدت إلى إصابات بليغة في جسده النحيل.. أقعدته أسير الفراش مدة من الزمن يتعجّل الشفاء ليعود إلى القتال من جديد. حتى جاءت ليلته الأخيرة مع عائلته، حين أتى أحد أصدقائه ليودعه ذاهباً لعمل عسكري هجومي ضد النظام. نادى سيف زوجته لتجهزه للذهاب مودعاً إياها وأطفاله، حاولت جاهدةً منعه، فقدمه مازالت مصابةً وآلامها حرمته النوم ثلاث ليالٍ متتالية، إلا أنه أصرّ على الذهاب.
“طلع سيف من بيته وكأنه طلعت روحي معه، هالمرة غي كل المرات، كنت خايفة كتير.. لانه وضعه الصحي لسى تعبان وماعم يقدر ينام من شدة ألمه”.
بتلك الكلمات تحدثنا زوجته عن آخر لقاءٍ بينها وبين زوجها. والقهر والحزن يفيض دموعاً تغطي وجهها الشاحب. “طلع هو و الشباب ويومها كان الليل شديد العتمة.. تاهوا وضيعوا الطريق وما شافوا حالهم إلا جنب حاجز لداعش.. وقتها نزلوا من سياراتهم وبلشو ركض ليحتموا من ضرب الرصاص عليهم.. رجعوا الشباب ومامعهم سيف..”!!
ليست ثمة أصعب على قلب زوجةٍ ألا تعرف مصير زوجها المجهول، هل قُتل أثناء هروبه، أم استطاعوا أسره. إن حياً أسيرا، ترى هل عذبوه؟! أسيرٌ ومصاب والآلام تأكل جسده! أي حالٍ يعاني إن ما كان حيّاً.
ظلت زوجته على هذه الأماني المرة عدة أشهر تنتظر خبراً يثلج صدرها. ويريح قلبها المكلوم عليه وعلى أبنائها الذين أدمى الحزن قلوبهم الصغيرة. حولهم إلى أطفال رجال يحملون همّ ومسؤولية أمهم.
تقول زوجته بحرقةٍ يكوي قلبها المفجوع “مرة يجيني خبر أنه حي بس وضعه الصحي سيء كتير وعم يتعذب.. مرة بقولوا قتل بنفس الليلة وهو عم يحاول يهرب.. ومرة أنه مات تحت التعذيب.. وبكل المرات قلبي بينفطر عليه.. وبضل عم فكر وادعي ليطلع الضو ونام مع أحزاني”.
كان آخر ما وصل أهل سيف من أخبار. أنه قتل. كيف ومتى لا أحد يعلم. حتى ذلك الخبر لم يستطع ذووه التأكد منه. فكل ما وصلهم عن لسان أحد قادة تنظيم الدولة “داعش” أنه قتل وكفى.
خرجت عائلة سيف من حلب بعد سقوطها، لتواجه غربة روح وجسد، بعد أن فقدوا السند والعضد، وفارقوا الأرض التي جمعتهم مع سيف، حاملين معهم ذكريات مؤلمة في كل زقاق وحيّ.
مازالوا يحلمون بعودة لأبيهم الميت الحي في قلوبهم وذاكرتهم وتفاصيل حياتهم اليومية، وكأن روحه تطوف بينهم ترشدهم وتكون لهم عوناً على قسوة الحياة.
قصة خبرية/ إيمان هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع