في تلك الليالي الباردة من عام 2011، حيث كانت الجدران ترتجف من هتافات الشباب في الشوارع، وحيث الرصاص يخترق الهواء كأنما يسابق صرخاتهم، كان هناك جنود يقفون عند زوايا المدن، وجوههم متجهمة، عيونهم تنضح قسوة، وألسنتهم تردد كلمات كأنهم يعتقدون أنها قانون لا يُكسر: “يسقط ربك وما بيسقط الأسد”.
قالوها بملء أفواههم، بقلوب قاسية، كأنهم يتحدون بها القدر. لم يكن الأمر مجرد كلمات جوفاء، بل كانت عقيدة سكنت نفوسهم، تغذت من آلة القمع التي زرعت فيهم أن الأسد هو الأبد، وأن كل من يطالب برحيله خائن أو كافر أو حشرة يجب سحقها.
في زنازين التعذيب، حيث الظلام يتسلل كوحشٍ يلتهم الأمل، كان المعتقلون يسمعون هذه العبارة مرارًا، مع كل جلدة، مع كل صرخة، كأنها توقيع النظام على أجسادهم الهزيلة.
لكن السنوات مضت، والدماء التي أُريقت لم تجف، بل نبتت منها شجرةُ صبرٍ تمتد جذورها في الأرض، حتى وإن بدت أغصانها منكسرةً تحت وطأة القصف والجوع.
لم يكن من السهل أن تستمر الثورة، أن تصمد أمام القصف، أمام المجازر، أمام الخذلان، لكن العدل لا يُمحى، ولو تأخر.
في نهاية عام 2024 ، بدأ الصرح الذي ظنّوه منيعًا يتهاوى. الاقتصاد انهار، التحالفات الخارجية بدأت تتخلى عنه كما يُترك الغريق حين يثقل وزنه، وبدأت الانشقاقات تتسع كشقوق في جدار قصره المنيع. لم يعد الجنود يملكون تلك الثقة المطلقة وهم يرددون شعاراتهم القديمة. تلاشت نظرة التحدي من عيونهم، وحلّ محلها ارتباك السؤال الذي لم يخطر لهم من قبل: “هل يمكن حقًا أن يسقط الأسد؟”
وفي تلك الليلة التي تغير فيها كل شيء، ليلة السقوط، كان القصر الجمهوري فارغًا إلا من أصوات الريح التي تمرّ عبر أروقته. كانت الشاشات التي لطالما بثّت خطاباته الصاخبة سوداء، وكان رجاله الذين كانوا يسيرون في الشوارع بأسلحتهم، يركضون الآن بلا وجهة، وجوههم غارقة في الذهول.
في أحد السجون التي فتحت أبوابها أخيرًا، كان هناك رجل يخرج بخطوات بطيئة، تجرّ جسده الذي أكلته السنون. كان قد أمضى فيها أكثر من عقد، في ظلمة لا شمس فيها ولا قمر، وحين وقف أمام البوابة، نظر إلى الخارج كأنه يرى السماء لأول مرة. رفع يديه المرتجفتين إلى الأعلى، وقال بصوت هزيل لكنه مليء بيقين عاش عليه كل تلك السنوات: لمن الملك اليوم؟
في القرآن الكريم، حين غرق فرعون، لم يكن أمامه سوى الاعتراف بالحقيقة التي طالما أنكَرها: { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} ،لكنه قالها بعد فوات الأوان، حين كان الماء يبتلع جسده الذي ظنّه خالدًا.
هكذا كان المشهد اليوم، الطاغية الذي تحدى الله، الذي قالوا عنه إنه لا يسقط، أصبح خبرًا على الشاشات، مجرد ذكرى مرعبة في ذاكرة من عاشوا عصره.
أما السجان الذي كان يجلد السجناء وهو يضحك، الذي كان يقول للمعتقلين إنهم سيموتون هنا ولن يعرف أحد عنهم شيئًا، فقد أصبح وجهه مطبوعًا على لائحة المطلوبين للعدالة. لم يكن يتخيل أبدًا أن يأتي يوم يبحث فيه عن مأوى، أن يصبح هو المطارد، أن يشعر بالخوف كما شعر به من عذبهم.
القبور الجماعية التي كُشفت بعد سقوط النظام كانت شاهدة على الجريمة. آلاف الرفات، عظام بلا أسماء، حكايات لم تكتمل، لكن أصحابها أصبحوا أحياءً في ذاكرة التاريخ. أمهات كُنَّ ينتظرن أبناءهن لسنوات، لم يجدن سوى فلذات أكبادٍ متناثرة، وأشلاء أجسادٍ مزقتها السياط المستعرة .
وفي النهاية، حين انتهت المسرحية التي امتدت لعقود، لم يبقَ سوى سؤال واحد يتردد في العقول: لمن الملك اليوم؟ والجواب لم يكن بحاجة إلى شرح طويل، فقد كُتب منذ الأزل: { لله الواحد القهار } .
أما الذين قالوا يومًا “يسقط ربك وما بيسقط الأسد”، فقد ذهبوا كما ذهب من سبقهم من الطغاة. لم تبقَ لهم سوى الذكرى، وذكرى الظالم لا تكون إلا لعنة يرددها التاريخ في كل أوقاته.