خمس سنوات وأكثر مرت، منذ أن ضربت عواصف “الربيع العربي” سوريا، دون أن يكون هناك أي تركيز جدي على الخلل الرئيسي الذي هو الآفة الطائفية التي هي، وإلى جانبها الصراعات والتناحرات العرقية (القومية) والخلافات والمشاحنات العشائرية، سبب هذه الحرب المحتدمة التي يصفها الغرب بصورة عامة بأنها حربٌ أهلية، في حين أن النظام ومعه حلفاؤه الروس والإيرانيون وتوابعهم يرفضون هذا الوصف، ويعتبرون أن هذا الصراع الذي تواصل على مدى هذه الفترة الطويلة، والذي غير مستبعد أن يستمر لخمسة أعوام أخرى وربما أكثر، هو مع مجموعات وتشكيلات إرهابية وتكفيرية!
وبالطبع فإن المعارضة المعتدلة لا تنكر أن لجوء هذا النظام وعلى مدى الفترة منذ عام 1970 إلى عمليات الاستقطاب الطائفي التي لجأ إليها قد مكن “الطائفة العلوية”، وفي الحقيقة بعض أطرافها ومكوناتها من السيطرة على كل المفاصل الرئيسية في الدولة السورية، وبخاصة الأجهزة الحساسة كالجيش والمخابرات، مما أدى إلى احتكار السلطة والسياسة، واحتكار القوة وكل شيء، وهذا هو ما أدى إلى انتفاضة 2011.
لكنها، أي المعارضة السورية، تضيف إلى العامل الطائفي – العائلي عوامل أخرى من بينها الاستبداد والقمع وغياب الحريات العامة، وإهانة الشعب السوري، وتحويل سوريا كلها إلى معتقل كبير، وحقيقة أنه لو أنَّ هذا البلد، كان محصنًا، ولو في الحدود الدنيا، لمرَّت به عواصف الربيع العربي كما مرَّت بالأردن وبعض الدول العربية الأخرى أو على الأقل كما مرت بتونس ومصر وليبيا.
وهنا وللإنصاف، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن بدايات الصِّدام والتناحر والتنافس الطائفي والعرقي والعشائري كانت قد ظهرت في سوريا وربما في العراق ولبنان وباقي دول هذه المنطقة كلها، عندما ضعفت السلطة العثمانية، وأفسح ضعفها المجال واسعًا للدول الطامعة بأنْ تمد أيديها لتلعب بتركيبتها الداخلية بذريعة وحجة حماية الأقليات الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية من “تغوُّل” الأكثرية السنية العربية! فكان أنْ نصَّبت فرنسا نفسها حامية للموارنة في لبنان، ونصبت روسيا القيصرية نفسها حامية للمسيحيين الأرثوذكس في الشرق العربي كله، في حين أنه كان لبريطانيا حصتها عندما تبنت اليهود والدروز، وهذا يبدو أنه لا يزال مستمرًا وإنْ معنويًا على الأقل حتى الآن، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار أن روسيا الاتحادية باتت تتصرف في هذا المجال، وكأنها الوريث الشرعي لروسيا القيصرية.
والمشكلة أن الفرنسيين عندما انتدبوا دولتهم وفقًا لاتفاقيات “سايكس – بيكو” التآمرية لاستعمار سوريا قد بادروا أولاً إلى التخلص من الدولة العروبية – القومية التي كان الملك فيصل الأول قد أقامها وفقًا لمنطلقات الثورة العربية الكبرى، وثانيًا إلى تحويل هذا البلد العربي إلى ثلاثة كيانات طائفية، كيانٌ علوي في منطقة جبال النصيريين وبعض مدن الساحل، وكيان درزي في المنطقة التي أصبح اسمها جبل العرب في حوران، ومنطقة تضم المدن الرئيسية دمشق وحمص وحماه وحلب والرقة ودير الزور والحسكة والقامشلي هي المنطقة السنية التي وُضعت تحت الانتداب الفرنسي المباشر مع وجود هيكل دولة شكلية، استطاع الاستقلاليون تحويلها إلى دولة فعلية مستقلة.
في كل الأحوال إن المقصود من هذا الاستعراض التاريخي المقتضب هو التأكيد على أنَّ داء الطائفية والعرقية والعشائرية قد بدأ مبكرًا في “نخْر” جسد هذا الجزء من الوطن العربي قبل استقلال عام 1946 وبعده، ومع الإشارة هنا إلى أنه كان بالإمكان معالجة هذا الداء أو ترشيده على الأقل، إنْ لم تكن هناك إمكانية لاستئصاله نهائيًا، في الفترة ما بين عام 1959 وحتى انهيار تجربة: “الجمهورية العربية المتحدة” في عام 1961.. هذه الفترة التي شهدت ما يقدَر بنحو أكثر من عشرة انقلابات عسكرية كان أولها انقلاب الجنرال حسني الزعيم، الذي كان ينتمي مثله مثل رئيس وزرائه عبد المحسن البرزاني دينيًا إلى المذهب السني وعرقيًا إلى القومية الكردية.
ويقينا لو أنَّ تجربة حكم حزب البعث التي بدأت في الثامن من مارس (آذار) عام 1963، استمرت بالتطلعات غير الطائفية وغير العنصرية العرقية التي تبناها، وسار عليها مؤسسوه الأوائل وسَلِمَتْ من تسلط اللجنة العسكرية (السرية) التي تشكلت خلال سنوات (الوحدة) القصيرة العمر في القاهرة من خمسة ضباط أحدهم حافظ الأسد، لربما أنَّ الأمور في سوريا قد سارت في غير هذا المسار الذي سارت عليه خلال نحو نصف قرن بأكمله، وكانت النتيجة كل هذه الكوارث المدمرة وكل هذه الحروب الدامية، وكل هذا التمزق الطائفي والمذهبي والقومي والعرقي.. والعشائري أيضًا.
وهكذا وباختصار فإن المشكلة الطائفية – المذهبية في سوريا بدل أن تتراجع قد تنامت وتضخمت للأسف في بدايات حكم حزب البعث، الذي من المفترض أنه قومي وقادر على استقطاب المسيحيين والعلويين والشيعة والدروز والإسماعيليين عروبيًا، على اعتبار أنه، وعلى لسان مؤسسه وأمينه العام الأول ميشيل عفلق كان يعتبر الرسالة الإسلامية رسالة العرب الحضارية، وكان يعتبر الرسول محمد صلوات الله عليه قدوته.. وهنا بالإمكان الرجوع إلى كتاب: “في ذكرى الرسول العربي”.
لكن حسابات البيدر لم تتطابق مع حسابات الحقل في هذا المجال، وانتقلت بعد الثامن من مارس (آذار) عام 1963 كل الآفات الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية إلى حكم البعث، وإلى كل جهازه التنظيمي، وهذا بشهادة ما كتبه عدد كبير من قادة هذا الحزب الأوائل ومن بينهم ميشيل عفلق نفسه، بالإضافة إلى صلاح البيطار ومنيف الرزاز وشبلي العيسمي.. وغيرهم غيرهم كثيرون.. والأسوأ أنَّ حافظ الأسد في سنوات حكمه قد بادر، لحماية نفسه ونظامه، الذي أصبح نظامًا طائفيًا – عائليًا منذ اللحظة الأولى، إلى وضع كل مفاصل الدولة، وبخاصة الجيش والأجهزة الأمنية بأيدي أقاربه، وأيضًا بأيدي المقربين إليه من الطائفة العلوية، وهذا هو ما جعل الآخرين، وبخاصة العرب السنة، يثورون أكثر من مرة وجعلهم يركبون موجة “الربيع العربي” بسرعة، وحيث أدى العنف الذي تعرضوا له إلى أن تصل الأمور إلى كل هذه الأوضاع الكارثية.
والآن فإن السؤال الذي يجب أن يُبْحث له عن جواب من قِبل كل الذين تعنيهم هذه القضية، وأولهم المعارضة السورية (المعتدلة) والعرب الذين ما زالوا يتمسكون بعروبتهم وبعروبة سوريا هو: ما الحل يا ترى..؟ والجواب هو أن أسوأ الحلول هو بقاء هذا النظام الاستبدادي والطائفي والمذهبي والعائلي، وأن أفضل الحلول هو حل (جنيف1) الذي نص على مرحلة انتقالية من دون بشار الأسد وعلى حكم انتقالي لا يُقصى منه أي مكون من مكونات الشعب السوري، وبخاصة العلويون والدروز والإسماعيليون والمسيحيون، وأيضًا أبناء الأقليات القومية أو العرقية، وفي مقدمتهم الأكراد الذين لا يمكن استثناؤهم من حكم بلد هو بلدهم، ووطن هو وطنهم بذل آباؤهم وأجدادهم من أجله أرواحهم ودماؤهم الزكية.
الشرق الأوسط