“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
بهدوء، أخطأ الوزير المُعفى من مهامه، شربل وهبة، حين تناولَ دولاً (لم يسمها) بطريقة خارجة عن المألوف الدبلوماسي، وبالهدوء ذاته، ما كان يستحق الأمر كل هذا الهرج والمرج والضجيج الإعلامي و “التزحفط” السياسي، والأكيد ، لم يكن الفعل، وعلى قساوته، بحاجة إلى تفعيل محرّكات “فرقة ردح” محلية الإنتاج خارجية الصنع، للنيل من سمعة الرجل وتحقيره وتفسير كلامه على هواها وجلده على الهواء مباشرةً، فهل أن القضية كانت تستحق كل هذا التعاطف والاستعطاف والإنبطاح في خيمة؟
عام 2017 استضاف الزميل مرسال غانم ضمن برنامج “كلام الناس” صحافيين سعوديين. استفاضَ الإثنان في التعليق وإبداء الرأي حيال قضايا لبنانية، وصولاً إلى إهانة كل من رئيس الجمهورية ورئيس “التيار الوطني الحر” و”حزب الله”، وإطلاق نعوت وأوصاف على الأخير لا تليق بشخص يتحدث عبر الاعلام ولا تصلح للإطلاق على أثير محطة لبنانية. لم يتجرأ أحد حينها على ملاحقة الإعلاميين السعوديين، وقضى الأمر أن يتم تعقّب نظيرهم اللبناني مقدم البرنامج ومحاسبته.
تكرّر الأمر لاحقاً في أكثر من محطة. صحافيون وإعلاميون سعوديون كانوا يتبارون، فرادى وجماعات، على إهانة لبنان ورئيسه من خلال مقالات كانت تُنشر عبر صحف سعودية، منها صحيفة “الشرق الأوسط” التي حقّرت العلم الوطني ووصفت لبنان بـ”كذبة نيسان”، وصولاً لإهانة أحزاب ممثّلة في مجلس النواب وطوائف كاملة. حينها أيضاً، وقف الطير على رأس القضاء.
خلال المقابلة “القنبلة” على شاشة قناة “الحرّة” الأميركية، تكرّر الأمر ذاته. الإعلامي السعودي الذي استُضيف إلى جانب الوزير وهبة، كال بدوره الإتهامات والشتائم بحق رئيس الجمهورية ورئيس “التيار الوطني” ووصفهما بـ”الثنائي المرح”، وتناول قضايا لبنانية داخلية، ونعت الحزب مراراً وتكراراً بالارهاب، من دون أي تدخل من مقدمة البرنامج اللبنانية، ما حرف وجهة المقابلة عن أصلها.
في الواقع، لا يمكن وصف الحالة الشاذة وحالة الخضوع التي نُعاني منها إلا في مقام سياسة الانبطاح المتّبعة لدى قسم من اللبنانيين، كافراد ومؤسسات، لا يرون بما يصدر عن سعوديين بحق لبنان بمثابة أي إهانة تذكر.
للوزير وهبة تبريره حيال ما حصل تلك الليلة. هو يعتقد أن الأمر برمته كان مدبراً بهدف الإيقاع به، من المقابلة حتى الضيف. يركن في اتهامه إلى عدم إبلاغه مسبقاً بوجود ضيف آخر يشاركه الحلقة. تجاوز آخر سجل في مقام الأعداد. الوزير وهبة يتهم القناة بتجزئة كلامه خلال المقابلة المصورة مسبقاً عبر خاصية “القص واللصق”، وعرض ما يناسبها عبر الإعلام. ما يعزز هذه الشكوك، تعمد تسريب مضامين لم تُعرض خلال الحلقة، على أفراد لبنانيين عملوا على تسويقها عبر مواقع إلكترونية بهدف الذمّ اولاً بوزير الخارجية وثانياً التجييش ودفع الأمور نحو خلق أزمة، في وقتٍ كانت قد وصلت المشاهد “المحذوفة” إلى مصادر القرار في الرياض، وهو أمر، من حيث التقديرات، كان منسّقاً في الغالب.
لكن السؤال المركزي الآن، لماذا يُراد الإيقاع بوزير خارجية لبنان بهذا الشكل المسيء؟
المسألة تعود لأشهر معدودة، حين لوحظَ تميّز وزير الخارجية في أكثر من ملف، أبرزها إبداء نيته زيارة دمشق. حجّة شربل وهبة للزيارة، كانت بأنه يريد التواصل مع عاصمة الأمويين لحل مسائل عالقة، تبدأ بمسألة النازحين السوريين والشروع بعملية إعادتهم بالتنسيق مع الطرف الروسي الساعي إلى ذلك، ولا تنتهي بترسيم الحدود الشمالية بين البلدين، سيما في ظل تنامي الحديث عن تلزيمات شرعت بها دمشق حيال بلوكات النفط الشمالية المتداخلة في حدود متنازع عليها “أخوياً” لصالح شركات تنقيب روسية، إلى جانب قضايا أخرى تهمّ البلدين، وإن اضطرّ أمر حلّها لإجراء لقاء مع الرئيس بشّار الأسد.
إنطلقَ وهبة حينها من قاعدة، أن دولاً عربية عدة تبدي انفتاحاً تجاه سورية إنطلاقاً من مصالح داخلية وأخرى مشتركة. وتبعاً لذلك، للبنان مصلحة لكونه يتقاسم وسوريا حدوداً طويلة “فلتانة” ويتشارك معها قضايا عالقة، فلماذا لا تتم الإستفادة من تلك الأجواء الإيجابية والعبور نحو دمشق؟
على ما يبدو، ثمة فريق لبناني لا يخفي موقفه حيال سورية، وجدَ في مسعى شربل وهبة إحراجاً له وربما هزيمةً لطرحه السياسي، وثمة نصائح وردت إلى وزير الخارجية بصرف النظر عن الخطوة الآن، لأن لبنان غير جاهز بعد. وفي حال قرّر العرب العودة إلى دمشق، فلبنان سيكون آخر الواصلين!
على ما يبدو رفض الوزير وهبة إلحاق لبنان في ذيل الترتيب، واستأنف مسعاه لترتيب زيارة إلى سورية، وهو الفعل الذي فتحَ عليه أبواب جهنم، تماماً كما حلّ بالنائب جبران باسيل حين أبدى رغبته، ذات تشرين، في زيارة دمشق.
إن صفّينا النيّة، نقول أن الفريق المعارض للزيارة، الداخلي طبعاً، وجد في مضمون مقابلة شربل ، أفضل سبب ممكن لاستخدامه على نية النيل منه وذمّه لإحراجه بإخراجه من المشهد السياسي، من خلال افتعال أزمة واستثمارها ثم تسويقها، وقد أثبتت التطورات اللاحقة، أن الإعداد والتحضير لها تم مبدئياً في الداخل وبتوجيهات خارجية غير خفية، بدليل ردات الفعل المحلية المتماهية مع الموقف السعودي من الأزمة، وصولاً إلى يوم الزحف الكبير صوب “الخيمة”.
ثمة موضوع آخر يصنّف من ضمن العوامل السلبية التي تسبّبت بتوفير ظروف الإطاحة بـ”وهبة” يتصل بموقف وزير الخارجية من مسألة المفاوضات الغير المباشرة لترسيم الحدود الجنوبية مع العدو برعاية اميركية. تذكر مصادر “ليبانون ديبايت” بأن السفيرة الاميركية دورثي شيا، عملت مراراً وتكراراً على محاولة “لملمة” نتائج المفاوضات التي لم تعجب الجانب الأميركي إزاء طرح لبنان الخط 29 على التفاوض، عبر محاولة إشراك وزير الخارجية في موقف لا يتماهى مع ما كان يدلي به الوفد اللبناني العسكري التقني المفاوض، لكن وهبة رفض الإملاءات الأميركية وأصرّ على موقفه مشدداً على حقوق لبنان التي يُعبّر عنها الوفد العسكري التقني.
بناءً عليه، يشكل مشهد الاطاحة بشربل وهبة درساً يجب قراءته بتأنٍ واستخلاص عبره.