خرجت من المنزل لأحضر الدواء لأمي المريضة من الصيدلية، جاءت سيارة سوداء وتوقفت بجانبي، نظرت إليها وإذ بزجاج السيارة ينزل، قال أنت التي رسمت الكاريكاتير عن نصر الحريري؟ أنا جاي “لأشرشحك”.
(هـ.إ) فتاة من حي الصاخور في حلب، ثلاثينية قضت جل عمرها معاناة، بين النجاح والإخفاق، والصبر والاستسلام. تعثر مرة، وتنهض ثانية. مليئة بحب الحياة، والرغبة في العيش كثيرا لتستمع بتقديم الخير وإدخال البهجة للناس.
تحب الرسم وتنتشي برسومها الطبيعية التي تبث فيها السرور كما قالت لي. ولكنها انتقلت لرسم الكاريكاتير لتعالج قضايا ومشاكل ثورية وتكبر دائرة شريحتها المستهدفة.
ثائرة لحقت ركب الثورة السورية. حرة بريشتها التي سخرتها لدعم قيم العدالة والحرية. تعرفت على مدير المركز الصحفي السوري في المناطق المحررة شمال سوريا، ثم بدأت رحلتها في رسم الكاريكاتير، والعمل في المركز معه.
انتقدت في خمس رسومات نصر الحريري، لعل أبرزها هي تلك الرسمة التي لم تعرف هي ولا السوريون الثائرون الحريري، أطبيب هو أم سياسي، سائق ” دراكتور” أم ” دبيك”، أم قائد عسكري!
كانت رسالة رسمتها تقول: اهدأ قليلا، لانعرف ما عملك بالضبط! حدد موقفك! لا نريد رئيسا للائتلاف يتحكم بكل شيء، نريد تخصص وتعددية وتوزيع مهام! فضلا على أن ظهورك هكذا دائما بالصور المتعمدة والرقص والدبك عقب موت السوريين وضياع الأراضي المحررة والقصف أمر مستفز، لا يراع مشاعر أهل الشهداء!
أخبرت الرسامة المركز منذ يومين بتعرضها للتهديد ، وربما الخطف لو أنها وافقت على طلب الشخص، الذي فتح لها باب السيارة وطلب أن تركب للتحدث، لكنها رفضت!
سألتها أن تصف لي ما حدث بالضبط، ولكن قبل ذلك، أردت أن أعرف عنها بعض التفاصيل، فقالت لي: في 6/5/2014 نزحت مع والدي وأمي من حي الصاخور في حلب بعد أن فاقت مشاهد الرعب هناك قدرتنا على التحمل، اقتحم بيتنا شبان، في عملية تسلل لقوات النظام.
صعدوا لسطح المنزل لينتقلوا لباقي الأسطح، ملأ الرعب قلوبنا، كنا من العوائل القليلة الباقية في الحي. فأمر النزوح للمجهول، حيث لا بيت ولا عمل، كان مقلقا ومخيفا لوالدي الكبير السن. ولكن قرر والدي أخيرا النزوح لعند إخوته في ريف حلب عقب تلك الحادثة”.
سألتها أن تصف لي ما حدث معها بالضبط يوم محاولة اختطافها وتهديدها، فقالت: في صباح ذلك اليوم أخذت والدتي المريضة للمشفى، فأنا من أرعاها وأرعى والدي، إضافة لأبناء أخي “الأيتام” المفقود منذ سنوات ولا نعلم عنه شيء حتى اللحظة. عدنا للبيت، ثم خرجت عصر ذلك اليوم الساعة الثالثة ونصف من بيتي إلى الصيدلية البعيدة تقريبا 500 متر عنا، وإذ بسيارة تقترب مني قليلا فنظرت إليها، ثم توقفت وأُنزلَ زجاج السيارة.
فقال لي رجل: أنت فلانة، ناداني باسمي. أجبته نعم أنا هي، تفضل.
تقول (هـ.إ) أنها بداية ظنت أنه أحد الزملاء الذي يعرفها من خلال معارض الصور والرسومات وأراد إلقاء التحية عليها.
تتابع: كان شخصا بشعر خفيف نسبيا، حنطي اللون، ضعيف البنية،
يلبس قميصا أبيضا. ويرفع نظارته إلى جبينه.
قال لي: أنت ترسمين الكاريكاتير. هل تعملين معنا؟
فقلت له من أنت؟ فقال هل تعلمين معنا أم ماذا؟ قولي!
قلت له من أنت أولا؟ أجاب: لا داعي أن تعرفيني.
فتح لي باب السيارة وقال لي اصعدي لنتحدث. فقلت له: لا شكرا. وهنا شعرت بخوف شديد. وخفق قلبي بسرعة. وانتابني الهلع.
فقال لي: يبدو أنك فتاة مؤدبة لا ينفع معك الكلام، وعلى كل حال جئت إليك ” لأشرشحك”. وانصحك ابتعدي عن رسم نصر! قلت له من نصر؟ قال الحريري! الذي تنتقديه برسوماتك!
سكتُّ قليلا، لم أدر ما أقول! انصرفت السيارة باتجاه طريق يأخذ إلى عفرين.
سألتها إن كانت ستكمل عملها، أم ستتوقف! فقالت لا أبدا. زاد إصراري على إكمال عملي. فأنا لدي رسالة وبنت الثورة. وأريد تقديم أي شيء يخدم الناس، لكن الصراحة أنني صدمت من هذا الحدث، فنحنا بعد كل هذه الدماء والجرحى والغربة التي سببها بشار الأسد، إلا أننا في المحرر نتعرض للتهديد ومحاولة الاختطاف! ومن من؟ من الذين يتزعمون معارضة خارجية لثورتنا!
ويتكلمون باسم الشعب في كل محفل، ويتنعمون بالمناصب والأموال على حساب الفقراء في المخيمات ودماء الشهداء التي سالت ثمنا لنيل الحرية!
بعد حديثي مع هـ. إ، التي كانت تتكلم بشجاعة معي، عكس ما توقعت، وتأثري بالحادثة، حاولت أن أقدم لها التشجيع والدعم
والتخفيف من أثر هذا الحدث. لكنها كانت ثابتة وقوية. فاختصرت علي الكثير، وزادت طمأنينتي أن حرية الكلمة ستبقى قوية ولو حاول المستبدون كسرها، إضافة إلى أن كل شخص ثوري يحمل هم إسقاط نظام الظلم والقتل أينما كان، في المحرر أو لدى مناطق الأسد لا بد أن يضحي ويصبر، فالحرية لها ثمن. والإصلاح أمره طويل ويحتاج عملا دؤوبا.
تواصل معي العديد من النشطاء يسألونني عن اسم الفتاة وماذا حصل لتوثيقه في انتهاكات حقوق الإنسان والصحفيين. لكني لم أستطع إخبارهم للحفاظ على سلامة الفتاة وحياتها، وعدم التعرض لها مرة ثانية من قبلهم.
محمد إسماعيل
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع