يتدلى عبد الرحمن أو عبودة كما تناديه أمه أم محمود النازحة من معرة النعمان بريف إدلب، من كرسيه المتحرك، تنوس العجلات، فتسمع أنات امتزجت بصوتها جاءت من بعيد، وحدها عيناه ترى ما حوله لا يسمع ولا يتكلم ولا يتحرك.
وضبت أم محمود مصطبة خيمتها في مخيمات شمال سوريا، وجرت الكرسي عليه ابنا، تحرك الكرسي مع الشمس كزهرة عباد شمس أو كفراشات تتبع الضوء، شاب عشريني في مقتبل الحياة تنسج أمه من خيوط الضوء أملا بعودة إلى سابق عهده رجل يحمل أعباء المنزل مع أبيه.
كان الشاب على أولى خطوات الشباب والرجولة، امتهن مهنة والده في التمديدات الكهربائية والصحية. ولضحكته رنتها الآسرة كخلخال غجرية، ولحديثه مفاهيم الرجولة والبحث عن البقاء، لحسن إصغائه والإصغاء فن كالكلام، ولهيبة مشيته، وجلسته في السيارة التي كان يقودها قاصدا عمله، هذا ما قالت أم محمود، عن ابنها الذي وقع أسير كرسيه المتحرك، قبل موعد خطوبته بأيام قليلة.
وتابعت، كان يعمل مع والده كخلية نحل لا تهدأ حركة بناء كبيرة في منطقتنا ويصحو وينام على عمل، في أواخر رمضان كان عليه تشطيب إنهاء تمديد الكهرباء لإحدى المنازل قبل عطلة العيد. حين ركب أبوه السيارة باتجاه سوق المعرة ليقضي لنا بعض الحاجيات، واستقل دراجته النارية صوب عمله في قرية قريبة منا ولكنها صارت بعيدة كحلم طفولي.
ثلاثة أسرّة في قبو رطب
تقول الأم: ” صياحات باعة رمضان اختلطت بصياحات الناس على باب منزلنا، دخل ابن سلفتي وقال لحقي عبد الرحمن، ركبت السيارة مع جارنا، زرعت الطريق من المنزل إلى المشفى الميداني القريب بالدعوات وصلنا إلى قبو رطب وفيه أسرة وضعت على عجل، قالوا حولناه إلى تركيا كانت صدمة كهربائية قوية ووقع عن السلم إثرها لم نستطع فعل أي شيء، على باب القبو قال جارنا هذه سيارتكم القادمة، يبدو أنه قد وصل أبو محمود، انتظرنا وصوله لكن السيارة لم تقف، تابعت الدخول إلى مدخل الإسعاف، سجوه على سرير مضرج ببعض دمائه، ضحك زوجي وقال كيف وصلكم الخبر الحمد لله، البرميل الأول لم ينفجر والثاني كان بعيدا قليلا عن السوق ولكن أصابتنا بعض الشظايا، وها أنا بخير، ولكن من أخبركم وكيف وصلتم قبلي إلى المشفى؟”.
ذهول المصيبة
كمن يمشي على حافة جبل منكسر يخاف أن ينزلق بصوته، وقفت مذهولة بلا صوت وبلا حركة، حتى اشتهين البكاء ولم أستطع ذرف دمعة، وقفت قبالة زوجي ولم يكن يعرف ما حصل لابننا، حيث لم يعد مصاب ابني الخبر العاجل بل زوجي الذي لا أدري ولم أفهم ما حدث معه. تقول الأم: لحق ابني محمود بأخيه وتابع معه في مشافي تركيا، بعد شهر من الانتظار، وغابت عن البيت نكهة الضحكات، عاد إلينا ببقايا شاب، عاد لكن لم يكن يشبه نفسه، فلا ضحكات ولا وحيف خطواته، ولا نداءاته على أبيه صوب العمل، ولا حتى صوته عندما يعود ويناديني ، يامو يامو أنا هنا.