كتب نزار قباني واحدة من النصوص النثرية التي ترقى إلى مستوى الشعر الرفيع في آخر أيام حياته عندما كان على سريره الأبيض في مستشفى سان توماس بلندن.. دارت كتاباته بأكملها حول فكرة واحدة هي أن الحب قادر أن يبني الإنسان والوطن والحاضر والمستقبل، الحب مفهوم يتسع مشاعر كثيرة لا تقتصر على ما قد يُخيّل إلينا من عاطفة مرتبطة بنزوة العشق بل كان شموليا عظيما بفكره اللامنتمي، كان هذا مقتطفات من تلك الرسالة:
“عندما فتحت عينيّ في غرفة الإنعاش في مستشفى سان توماس في لندن بعد الأزمة القلبية التي أصابتني لم أصدق ما تراه عيني.. فقد كان الوطن العربي كله جالسا قرب سريري يذرف الدموع ويضرع إلى الله كي يعيد إلى قلبي السلامة والعافية.
هل كتابة الشعر وحدها تعطيني مثل هذا الامتياز العظيم؟! إنني لا أميل إلى هذا الرأي، فالشعراء العرب أكثر من نجوم السماء.. ربما لأنني جلست مع الناس على بساط المحبة والديمقراطية وتقاسمت معهم لغة شعرية لا تختلف في بساطتها عن حديثهم اليومي.. وربما لأنني لم أمارس الغش والخديعة والنفاق في كتابتي ولم أنحنِ أمام أي سلطة، سوى سلطة الله.
لقد علمتني ذبحة القلب أن كتابة الشعر ليست مجرد نزهة في ضوء القمر.. لكنها رحلة باتجاه الهاوية فإذا أخذني الوطن بين ذراعيه وسهر طول الليل قرب سريري فلأنني خلال خمسين عاما كنت ضمير الناس ووجدانهم وكنت صوت العشاق والثوار والأحرار والمناضلين كما كنت صوت النساء وسيفهن المسلول.. حتى صار شعري جزءا من حياة الناس وكلامهم وطعامهم وشرابهم وتنفسهم.. مئتا مليون عربي.. هبطوا كالعصافير على نوافذ غرفتي في لندن يحملون لي في مناقيرهم أزهار العشق وقمح المحبة.
خمسون عاما حاولت فيها أن أؤسس جمهورية للشعر، ترفع أعلام الحب والعدل والحرية.. ويتكلم مواطنوها لغة واحدة ويتوج فيها النساء ملكات على مدى الحياة.
وها أنذا بعد خمسين عاما أعلن من لندن انتصار جمهوريتي التي تمتد من العين إلى العين ومن القلب إلى القلب..
ومن آخر كتاباته التي لم تنشر:
تعب الكلام من الكلام
لم يبق عندي ما أقول
لم يبق عندي ما أقول
تعب الكلام من الكلام
ومات في أحداق أعيننا النخيل
شفتاي من خشب ووجهك مرهق
والحب ما عادت تُدَقّ له الطبول
…..
لم يبق شيء في يدي
كل البطولات انتهت
والعنتريات انتهت
ومعارك الإعراب والصرف انتهت
لا ياسمين الشام يعرفني
ولا الأنهار والصفصاف والأهداب والخد الأسيل
وأنا أحدق في الفراغ وفي يديك
وفي أحاسيسي
فيغمرني الذهول
أرجو السماح
إذا جلست على الأريكة محبطا
ومشتتا
ومبعثرا
أرجو سماحك
إن نسيت بلاغتي
لم يبق من لغة الهوى إلا القليل!!
مجلة الحدث – علاء العبدالله