تُعلِّمك السنون، وخصوصاً طوالها، أن التحليل السياسي مهمة عبثية مثل الضاربات بالودع في جوار الأهرام. من ناحية، الإنسان الذي بنى منذ آلاف السنين معجزة هندسية لا تحد، وإلى جواره امرأة مغلوبة تعلمت درساً واحداً: سهولة الضحك على العقل البشري.
لذلك، التاريخ يُكتب من الآخر، ويدوّنه المؤرخون. أما الاستعانة بعناصر الحاضر من اجل التنبؤ بالمستقبل، فمثل الاستعانة بالصَّدف لضرب الودع. أو مثل استقراء المصير في بقايا القهوة وركود البنّ. ولا يعني هذا إطلاقاً أن القراءة الفَطِنة للماضي لا تضيء علامات الطرق لأحداث المستقبل أحياناً، غير أن التاريخ لا يكل يَضحَك منك ومني ومنه، لأنه يلعب دائماً على أوتار المتشابهات. وهي خادعة، لأن البشر متشابهون، أما ازمانهم فليست.
يخطر كل ذلك ونحن نتأمل الكثبان المغنيّة من حولنا. وكان الرحّالة يشاهدون في الصحاري كثيباً رملياً هائلاً مثل جبل، وبعد لحظات يرونه وقد انهار محدثاً اصواتاً كالموسيقى، ولذا، سماها البدو الكثبان المغنيّة، وخافوا صوت حدائها، وحاذروها كما يحاذرون السراب، أبشع أنواع المكر الذي تمارسه الطبيعة فيما هي في ذروة جلافتها، والإنسان في آخر يأسه.
بدل قراءة التحليل حول ما يمر به العالم، اكتفي بقراءة التاريخ. قاعة مرايا متكسرة لا مخارج لها. كيفما تطلعت ترى تركيا. وترى الباب العالي. وترى روسيا. لكن “مؤذن اسطنبول” ليس السلطان المنهار عبد الحميد الثاني، ولا بطل الحروب المذلّة للغرب وزير النساء، كمال أتاتورك. ولا القابض على الكرملين قيصر من آل رومانوف، ولا هو لينين يتخلى عن حصة روسيا في سايكس- بيكو لأن ثورة اكتوبر المجيدة اكثر أهمية مما بعد البوسفور، كما أصرّ بطرس الأكبر.
دائماً كانت روسيا على عداء، أو على تحالف، أو على حذر متوتر مع تركيا. ومثلما فعل اردوغان عندما حمل قلم توقيع التسويات إلى بطرسبرج، هكذا كان يفعل موفدو الصدر الأعظم. خمسة قرون من الامبراطورية العثمانية “التي ترتعد لذكرها الأمم”، توارت شيئاً فشيئاً. وعندما وصل أتاتورك لإعلان الدولة التركية والتخلي عن الاوصال الواهنة، كان الاتراك قد فقدوا الجائزة الكبرى، العرب، بلاد الحرمين، بلاد القدس، بلاد النهرين، وأرض اور والانبياء.
كانت الامبراطورية العثمانية تنازع منذ زمن، أواخر القرن التاسع عشر. وفي استماتة المُلك، حَوَّلت الدنيا من حولها إلى مجازر بلا نهايات. ارمن اشوريون واكراد. وأخذ الفيل المهزوم يحطم مذعوراً مخزن الإناء. وبكل هدوء كان العقيد السير مارك سايكس، الذي يحب الامبراطورية وأولاده الستة، يفاوض على الخريطة الجديدة مع نده الفرنسي، الذي يكرهه ويكره فرنسا التي ينتمي إليها، مع أنه يحب حضارتها وآدابها.
كانت تركيا تملك كل شيء، وكان لا بد من تجريدها من كل شيء. لم يكن أحد يقول إنها حرب بين المسيحية والمسلمين، بين الغرب والشرق، بين الخلافة التي وصلت إلى الدانوب، من ضفته النمساوية، والغرب العائد إلى دائرة القوة. غير أن الجنرال اللنبي، عندما بلغ القدس العام 1917، لم يتمالك نفسه من القول، ها قد عدنا إلى اورشليم! لم يقل ها قد وصلنا.
عمَّ نبحث في هذه اللوحة الجدارية المعلقة في رأس كل واحد منا؟ عن لا شيء. ربما عن موضوع للكتابة، في هذه المتاهة المتزايدة في غابة الاحداث، لم نعرف لها مثيلاً، لا في الحرب الأولى، ولا في الثانية، ولا بينهما. لقد ظلت الحربان بعيدتين عنا نسبياً على رغم تكاثر القوى والجيوش وتداول السيطرة والنفوذ. ولم ينسَ أتاتورك أن اسطنبول، أو ستامبول، أو القسطنطينية، أو بيزنطيا، تحولت ذات يوم إلى مربعات يحتلّها الغرب، تمتلىء باللاجئين من الروس البيض الذين يرددون الأغاني الحزينة، أو الجنود الاوروبيين الذين يعطون الأوامر دون إصدارها. حتى الرقيب على الصحف كان من الحلفاء. ليس للمهزوم حق النقد.
كَرِهَ مذلة اسطنبول، الى درجة أنه بحث لتركيا الحديثة عن عاصمة في انقرة، إحدى بلدات الاناضول. أي مدينة هي “سطمبول” اليوم؟ لا هي مجد أتاتورك العسكري، ولا هي زوالات آخر أيام السلطان عبد الحميد الثاني، الذي لم يبق له من اسلافه محمد الفاتح وسليمان القانوني سوى التعظيم سلامات. لكن آخر ما تعيَّن علينا في هذه المتاهة البشرية العظمى، هو أن نقرأ من جديد حركة “مؤذن اسطنبول”. أو بالأحرى ان نقرأ حركة السلطان الجديد، الذي استدار على نفسه وعلى تنظيرات رئيس وزرائه السابق أحمد داود أوغلو، وعلى حلفه مع قطر، من أجل اعادة ترميم مبهمة وغامضة محت كل ما قبلها: جنيف واحد، واثنين، وثلاثة. وزيارات أحمد داود أوغلو الاحتفالية لقبر الشاه التركي في اراضي سوريا. وقرار اردوغان “بتجنيس” اللاجئين. وها هي غازي عينتاب الحدودية، التي كانت مقاهي “داعش” وممراته، تتحول فجأة إلى مفجرات “داعش” في اعراس المدينة.
يجب ألا نمضي وقتاً طويلاً في استقراء التحولات التركية. سوف تكون أسرع منا بكثير. وقد عادت اسطنبول إلى السباق العسكري “على الأرض” وفي السماء. وفي جانب تقاتل في الجناح الأميركي، وفي آخر في الجناح الروسي، وفي الثالث تناور النظام السوري الذي أصبح الآن “مقبولاً موقتاً”، أو مرحلياً، كما هو الحال في واشنطن. أين صار “أصدقاء سوريا”؟ في المسرح الأممي! وكيل السيد بان للشؤون الإنسانية يقول إن الحال في شرق حلب يهدد “بكارثة إنسانية”. سلمت احناءاتكَ، انت والإنسان الذي تتحدث باسمه، والإنسانية التي تمثلان بلادتها.
كل ما يجري الآن لم يكن متوقعاً. وكذلك كل ما جرى من قبل. ذات مرحلة أخفق جميع المحللين الاستراتيجيين في “البنتاغون” في التصور أن مجموعات الفيتكونغ سوف تهزم القوة التي ربحت الحربين العالميتين. جميع القاذفات الحاصدة والحارقة لم تحسب أن المقاتلين الصغار القامات سوف يحاربون من تحت الأرض. من أجل أن يكون آدم الطيران، أمضى الاندلسي عباس بن فرناس سنوات يدرس تحليق الطير. درس حركة الجناحين، وانفلاش الريش، ومدى الاستمرار في الهواء، والاستعانة باتجاه الريح. وفعلاً حلّق عالياً، وإلى مسافة جيدة. لكن هبوطه كان كارثياً، وكاد يكون قاتلاً. وإذ اخذ يدرس محطم الاضلاع سبب الفشل، تبين له أنه درس كلياً عملية التحليق ولم ينتبه إلى اعتماد الطير على مخلبه في التباطؤ خلال الهبوط.
فات اردوغان وهو يتمخطر في اندفاعه نحو تغيير خريطة الأنظمة في المنطقة. أن تركيا الفتاة تشبه تماماً فسيفساء تركيا الامبراطورية. الاسكندرون لا تزال تتحدث العربية، والأكراد يتحدثون لغتهم سراً، كما كان الليبيون يقرأون القرآن ايام الاستعمار الإيطالي.
لم ينتبه أيضاً إلى أن الاكراد الذين خسروا اعلان الدولة عندما أعاد مؤتمر فرساي تشكيل عالم ما بعد الحرب الأولى، بسبب انقسامهم وشرذمتهم وعدم اتفاقهم حتى على وفد موحد، هم الآن شبه موحدين، ودولتهم ترتسم عبر الحدود، وأول ما فعله النظام السوري في رده على انقره كان اطلاق الأقليم الكردي، ومنح الجنسيات المهملة منذ عقود.
بين بداية احداث سوريا، وذهاب اردوغان إلى بطرسبرج عاصمة القيصرين، القيصر ولينين، توقف اندفاع التحالف الاخواني في مصر، وفقد القيادة في حرب سوريا. وبعدما نزلت هيلاري كلينتون إلى “ميدان التحرير” بالتايور الأحمر، قال باراك اوباما لحسني مبارك، “ارحل أمس”، ورسم في سوريا “خطاً أحمر” في الهواءالطلق، انزوت الإدارة الأميركية “تحلل” الاحداث مثل سائر المحللين. ألم يكتب بشارة الخوري في وصف الحائرين:
يبكي ويضحكُ لا حزناً ولا فرحاً / كعاشق خط سطراً في الهوى ومحا؟
حتى الآن – فقط حتى الآن – الجبهة السورية العسكرية والديبلوماسية اكوام من الخراب والفشل والتراجعات. صحيح أن بوتين هو الزير أبو ليلى، لكن أشهراً من “السوخوي”، وقزوين، وقاعدة همدان، لم تحسم شيئاً. وايران توسع فرقها عبر دجلة والفرات، لكن الخسائر أضخم من الأرباح. والنظام السوري قلب الوضع منذ أن اعلن الرئيس بشار الأسد أن قواته لم تعد قادرة على السيطرة على جميع البلاد، إلا أنه لا يزال بعيداً، مع حلفائه، عن إعلان أي حسم في أي مكان، باستثناء المناطق الهادئة في الاساس.
فظاعات القرن العشرين لم تكن في الحربين العظميين، بل في أن حروبه كانت حروباً أهلية تحت اسماء وعناوين أخرى. من الحرب الاسبانية إلى مجازر بول بوت في كمبوديا، إلى الحرب اللبنانية، إلى حرب المناجل في رواندا، إلى الركام السوري الذي يبحث فيه كل فريق عن انتصاره، براً وبحراً وجواً.
سمير عطا الله_النهار