عدلي صادق – العرب
يؤشر احتدام القصف الجاري لغوطة دمشق الشرقية في سوريا على احتمالات اصطدام بالوكالة، بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، لا سيما وأن الأخيرة تعرضت لمسلسل من خيبات الأمل التي دلت على تخبط ورعونة سياسة الرئيس دونالد ترامب وطاقمه، اللذين يطلقان التهديدات ثم لا يقويان على فعل شيء، كلما تجاوز النظام السوري ومن ورائه الروس والإيرانيون، الخطوط الحمراء التي يحددها الأميركيون.
فلا تزال المحرقة تتفاقم، ويُقتل السوريون بالجملة، بينما الرغبة الحقيقية للرئيس ترامب وإدارته، هي نفسها رغبة بنيامين نتنياهو والفريق الذي معه، وهؤلاء يريدون لكل الأطراف في سوريا أن تستكمل تدميرها وتشريد شعبها.
تنم سياقات الأمور على الأرض، عن أن جميع الأطراف تكذب ولا تحترم تعهداتها، وأن خطابها المعلن في توصيف مقاصدها من الانخراط في الصراع، لا علاقة له بحقائق المقاصد والأهداف.
فعلى الرغم من كل الفظاعات في الغوطة الشرقية، لم تجرؤ واشنطن على القول إن لديها ورقة تفاهم مع أصدقائها وحلفائها، لوقف التدمير وشلال الدم. لذا تعمدت تسمية مقاربة التفاهم مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية والأردن بــ“اللاورقة”، وقوامها أو تمنياتها أن تستهل هذه الدول مجتمعة والقابلة للتكاثر، تدخلا سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا لفرض حل على أساس تغيير النظام.
وكان فحوى تلك “اللاورقة” يعكس الرؤية الأميركية الفضفاضة، التي أفصحت عنها واشنطن في منتصف شهر يناير المنقضي، وأرادت أن تجعلها المقابل المضاد لمسار “سوتشي” العقيم والمراوغ.
غير أن القراءة الموضوعية لكل هذه الصيغ أنها تعزز ازدحام الأجندات السياسية التي تحاول التغطية، كقنابل دخان، على معطيات الواقع الدامي للشعب السوري، وممارسات الجيوش الضالعة في قتل السوريين وتدمير ما تبقى من بلادهم.
ويتّبع الأميركيون في سلوكهم على الأرض منطق التذكير بأنهم موجودون وحسب. فهم يتواجدون بالفعل من خلال ثماني قواعد عسكرية شرق الفرات، وبؤر في بادية شرق سوريا حيث يوجد مخزون للطاقة. وهؤلاء ومعهم حلفاؤهم، يتحدثون عن تغيير قواعد اللعبة، وصياغة دستور تتحدد فيه وتتقلص صلاحيات رئيس الجمهورية، ويؤكد على النظام البرلماني ومبدأ الفصل بين السلطات، والتداول على السلطة من خلال الانتخابات بالمعايير الدولية، وضمان حقوق المواطنة المتساوية وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية.
الروس بدورهم تطيّروا من التعاطي الغربي معهم على افتراض أن دورهم، ومعهم الإيرانيون والنظام، قد انتهى. فقد رأوا أن الغرب من خلال حلفائه في المنطقة، يتطلع إلى الدخول للإعمار ووضع اليد على ثروات سوريا، التي يُقدر مخزون الغاز في باطن أرضها وعلى ساحلها، بما يعادل حجم المخزون الروسي إن لم يزد عليه. من هنا احتدمت الأجندات واحتدمت النيران، التي وقودها الناس والحجارة.
أما تركيا الأردوغانية فإن أمرها لا يتخطى دور الكومبارس الذي يكفيه الأجر الضحل، بعد أن تخبّطت وتقلبت وجمعت بين المتناقضات في علاقاتها بدول الإقليم النافذة وروسيا.
وعلى الرغم من ذلك تزداد المصاعب التي تواجهها تعقيدا وصعوبة، واحتقنت علاقاتها مع حليفها الطبيعي، الأميركي، بجريرة حساباتها الإقليمية، وتحالفاتها الظرفية التي لجأت إليها اضطرارا، ولا تتسم بالملـمح الاستراتيجي الراسخ والدائم. فعلاقاتها مع الإيرانيين، أعدائها في الساحة السورية، متأرجحة ومصلحية، ليس ثابتا فيها سوى العلاقات الاقتصادية، الماضية بحجم كبير، في موازاة التناقض بين الطرفين، في المقاصد والأهداف على الأراضي السورية.
ومن بين استثناءات التوافق ميدانيا بين أنقرة وطهران، على الأراضي السورية، أن العاصمتين توافقتا في الموقف من الأكراد، ولم تتقبل أنقرة بسعادة اتفاق وقف التصعيد، ما جعلها معنية بالتركيز على منطقة إدلب، لكي تظل خالية إلا من نفوذها، وينغص عليها وجود جبهة النصرة التي يتفق الإقليم والعالم على كونها إرهابية، وحزب العمال الكردستاني في عفرين، الذي تراه تركيا إرهابيا.
وتلعب إسرائيل دورا رئيسا، بقليل من الكلام وكثير من الفعل، وتشتغل على حصة معتبرة من ترتيبات ما بعد الحرب. فقد نجحت عبر مراحل الصراع في إبعاد القتال عن حدودها، وما اتفاقية وقف التصعيد، التي أبرمتها واشنطن مع موسكو وطهران، إلا محصلة هذا السياق. كما توصلت تل أبيب مع الروس إلى تفاهم لإزاحة أي تواجد للإيرانيين وحلفائهم على مقربة منها، ولضمان ذلك تأسست بين الروس والإيرانيين منظومة تنسيق عال على المستوى الميداني برا وفي الأجواء. ولم تنقطع زيارات نتنياهو لموسكو، لضمان فاعلية الاتفاق.
بالإضافة إلى ذلك باشرت إسرائيل بنفسها عملا عسكريا متقطعا لكنه مؤثر وموجع. فهي تشن بين الحين والآخر مجموعة غارات على مفاصل الانتشار الإيراني والجيش النظامي السوري وحزب الله، في وسط وجنوبي سوريا، لضمان أمنها راهنا ومستقبلا، واخترقت الخارطة العملياتية للفصائل المعارضة وأنشأت علاقات لوجستية مع بعض مجموعاتها وفصائلها المقاتلة، وعقيدتها في ذلك كله هي أن يتأذى الجميع، وأن تُدمر سوريا وأن تصبح عندما تنتهي الحرب معنية بلعق جراحها، وعاجزة عن أي حراك لعشرات السنين.
الأطراف الضالعة في التدمير والقتل وإيقاع الفتن، لا تزال معنية باحتدام النيران واحتدام التلاعبات السياسية، وبدا الروس والإيرانيون حتى الآن في موقف أفضل بكثير، بالمقارنة مع رعونة الأميركيين وتركهم عن عمد، النيران تستعر.