الحياة – رستم محمود
كيف لنا أن نتخيل مشاعر شخص من أبناء الطائفة العلوية، شخص يعتبر نفسه موالياً عضوياً للنظام السوري ويعتبر هذا النظام حامي هذه الطائفة، وهو يتابع مقابلات رئيس النظام السوري الكثيرة على شاشات التلفزة، حين يتحدث عن الحرب المفتوحة التي يخوضها نظامه، وكل مرة تبدو اشكال الغبطة والفرح واضحة وهي تعلو مُحياه، مُظهراً الكثير من الفوقية والجسارة وراحة الضمير وحُسن الحال، في وقت يُدرك هذا الشخص المتابع وحده، مع كثيرين من أبناء هذه الطائفة، فداحة الأثمان التي دفعوها خلال حرب النظام المفتوحة هذه.
فقد راح عشرات الآلاف من شبان هذه الطائفة ضحايا لهذه الحرب، وما زالت ماكينة الحرب تطلب الكثيرين منهم، مما خلق خللاً ديموغرافياً/اجتماعياً واضحاً المعالم والآثار في هذه الجماعة الأهلية الصغيرة نسبياً، كذلك هجّر النظام وحربه خيرة الطبقة المتعلمة والمدنية منهم، وأدخلهم في علاقة خصام مفتوحة مع جوارهم الجغرافي السُني كله.
وهو ما ستبقى آثاره العنيفة الأليمة لأجيال قادمة، وهذا طبعاً بالإضافة الى الكثير من الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية التي دفعت بهذه الجماعة الى حال تقارب التهلكة.
لا شيء في ذلك التناقض سوى نوع واضح من الازدراء وعدم الاعتبار لما أصاب هذه الجماعة الأهلية من آلام وما دفعته من أثمان، تلك الجماعة التي يعتبرها النظام في قرارة نفسه قاعدته الشعبية، ويسعى دوماً الى بث خطاب بيني يوحي بأنه التعبير السياسي الوحيد والحامي المطلق لاستقرارها وسلامها ووجودها!.
وهذا السلوك ليس مجرد فردنة شخصية من رأس النظام، بل هو أقرب ما يكون الى منهج سياسي مُحكم من قبله، وإلا فما معنى ألا يرضخ ولا يقبل بأية حلول توافقية حقيقة توقف هذه الحرب/المأساة التي تلحق بأبناء هذه الطائفة، بمستويات لا تقل عما يلحق بغيرهم. فجميع “النُخب” السياسية السورية، سواء المعارضة المدنية أو التيارات الدينية “السُنية” أو الأحزاب القومية الكردية، تبدو بشكل أو آخر مستعدة عملياً لذلك الحل التوافقي، حفاظاً وحماية للقاعدة الاجتماعية والأهلية التي تمثلها، ما خلا النظام السوري الذي يُظهر على الدوام استعداداً وتوقاً لاستمرار هذه الحرب المفتوحة، من دون أي اعتبار لحجم ضحاياها من أبناء الطائفة العلوية، قاعدته الشعبية التي يدعي في شكل غير مباشر أنه ممثلها وحاميها الوحيد.
في هذا المقام بالذات، تنفتح ثلاث إشكاليات اجتماعية/سياسية حول نمط علاقة أركان ونُخب حُكم النظام السوري بالطائفة العلوية.
إذ هي ليست نُخباً سياسية عضوية قادمة من “العالم الداخلي” للطائفة، كما هو الحال في بقية نماذج النُخب السورية السياسية الأهلية، حيث تستمد كل منها شرعيتها من مدى تمثيلها للطموحات والأهداف الكلية للجماعة التي تدعي تمثيلها. فنُخبة الحُكم في النظام السوري تستمد قوتها و “شرعيتها” من السلطة المركزية والعسكرية والاقتصادية التي في قبضتها، وليس مما يمنحها أبناء هذه الطائفة من “شرعية” تمثيل، كما حال النماذج التقليدية في النُخب الأهلية الأخرى.
فلو كانت الطائفة العلوية مصدراً لـ “شرعية” النظام، لامتلكت حق سحب تلك الشرعية، أو استبدال الممثلين على أقل تقدير، وهي أكثر من يستشعر فداحة ما يجره هذا النظام عليها. لكن من الواضح أنها لا تملك أي قدرة في ذلك الاتجاه.
من جهة أخرى ثمة كشف لفداحة ما مارسه هذا النظام على بنى الطائفة العلوية، طوال عقود وعلى مراحل. حيث يظهر جلياً كيف تمت تصفية كافة النُخب الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية المستقلة التي كانت ضمن هذه الطائفة، وكيف أن النظام خلق “نُخباً” بديلة صورية عنها جمعياً، مؤسسة على الولاء المطلق لرأس النظام، وبذا تمت تصفية أي اعتراض يمكن أن يظهر من “العالم الأهلي” لها، وتحويل كل أبناء الطائفة إلى كتلة من مستلَبي الإرادة، كتلة شبه عسكرية وشديدة الطواعية، فيما مصير كل من يعترض على تلك العلاقة من التبعية المطلقة، أن يُخرج من “عالم” الطائفة كله.
أخيراً، فإن جزءاً غير يسير من ذلك الازدراء الذي يمارسه النظام السوري بحق أبناء الطائفة العلوية، تتحمل وزره الحركات والتنظيمات الطائفية “السُنية” الراديكالية، تلك التي خلقت، في نوعية خطابها وممارساتها وعدوانيتها الجلية والمكشوفة تجاه أبناء هذه الطائفة، عبر إقامة المماهاة بينها وبين النظام السوري، وعبر التكفير وتجاوز روابط المواطنة والمجاورة والبلد الواحد، عاملاً محفزاً ليستمرئ أبناء هذه الطائفة أي ازدراء سياسي وعسكري من قبل النظام، خشية وقوعهم في مصيدة هذه التنظيمات التي حطمت كل بُعد مدني ووطني للثورة السورية.
وهذا المعيار هو ما يمكن اعتباره ضابطاً لكل اشكال العلاقة بين الجماعات الأهلية السورية، فما إن تتعرض جماعة أهلية ما لابتزاز واضح من قبل جماعة أخرى أو من أحد تنظيماتها، حتى تبدأ بالتحول والقبول بكل الشروط المفروضة عليها من قبل نُخبتها الحاكمة، أياً كان فساد تلك “النُخبة” وعنفها وأفعالها السيئة الواقعة على تلك الجماعة.
ولا بأس هنا بالتذكير بقصيدة “الحصان” للشاعر الكردي الشهير عبدالله بيشوا، حيث يسخر من فداحة استغلال القوميين لمشاعر البسطاء. ففي القصيدة يصرخ الفارس بحصانه طالباً منه الإسراع لأن “الأعداء” باتوا على مقربة منهم، فيرد عليه الحصان ساخراً بما معناه “سيدي، أنا مجرد حصان، أحمل الأمتعة والفرسان، سواء كنت أنت وأمتعتك، أو كان أحد فرسان الأعداء مع أمتعته، فلا فرق في حالي، فلماذا استعجل الهروب؟!”… وهذا مع استبعاد تام لأي تشبيه في غير المعنى المعنوي البعيد.