خمسة عشر رجلاً وطفل إلى جانب سائق الرانج، نموج حيث يميل الطريق، الصمت المشبع برائحة الخذلان والموت، طريق جبلية شائكة محفّرة كوجوهنا، نسيتها الحكومات، فأسدلت على أفقها شاخصات الاستفهام.
رحلة الألف ميل بمزحة
يقول أبو علي، كنت أبحث في ضياء قمر حزيران عن مسحة أمل، مدى ابنتي الكبيرة شارفت أبواب الصف المغلق من عمرها، فالمدارس مغلقة وأنا أفتح عيني على نور مستقبلها، أنفث همومي بوجه جليسي حين قال، “ما الك غير أوربا”، صديقنا أبو حسن يجمّع أحلام الشباب في مجموعة، سينطلق ربما الأسبوع القادم.
برنة هاتف كنت قد جمعت الأموال المكدّسة في شوارع هولندا، ووفيت ديوني التي سأرحل بها، وحجزت مقعداً مليئاً بالأحلام، حيث نوافذ العمر تطلّ من مقاعد أبنائي الدراسيّة، وكلّ ما أخشاه طرفة عين “سنتين تلاتة بلملن شمل”.
خاطركن
مشاعري انبثقت من ثقوب جدار غرفتنا الوحيدة، تشتت كالغبار القادم من نوافذها المشرّعة للأحلام، فأعطيت لأولادي مائة ليرة ليبتعدو عن مشهد الوداع، بعلبة بسكوت تلمّ عن عيوني دمعات فراقهم، لم أستطع ضمّهم، راحوا فرحين ورحت دون أن ألتفت إلى دموع أمّي، لم استطع قطع حبل دموعها السرّي، ولو بأقل من عناق بنظرة، قلت “خاطركن”
لا أعرف خرجت من حلقي أم توهمتها، وما فتئت تعتصر قلبي.
صرتُ أمّة
لو تعلمين يا أمّي من كان اسمه “يا بعد عيني”
صرتُ أعرف بعد يوم من حقيبتي “يا أنت هييي”
هكذا كان ينادينا السمسار، ويقول للمهرّب صاروا سبعة ركّاب، ولو فتّش قلبي لقال، صار أمّة.
قنوات اتصال
شهر ونصف في إسطنبول، اتسعت أحلام الرفاق وفاض شوقي، في قبوٍ رطبٍ كنا سبعة سوريبن وخمسة أفغان ومغربيين، وشبكة عنكبوت تصطاد ما امتص المهرّب والذباب من دمائنا، وموال عراقي لا يفارق طنين أذني:
“في وجوه الناس أطالع. …وجهك الحاضر الغايب.. فين أنتا.. متى أشوفك.. وحدي اسأل وحدي أجاوب..”
أضغط زر الكاميرا طنين على الطرف الآخر ..ابنتي مدى ..
أراها منكسرة، آوت إلى ركن ضعيف من قلبي .. لا تستطيع الكلام .. أبكي وأغلق ويعود الطنين “وجهك الحاظر الغايب”
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/444799267093140
بارقة الأمل بسبعين كيلو مترًا على الأقدام
خبز جاف، معلبات، لا تنسو بخاخات الناموس، ليلة على النهر كألفٍ مما تضجرون، الزورق المطاطي حفيف أقراص عبّاد الشمس تميل أحسبها باتجاه قلبي، بعد سبعين كيلو مترًا هناك سيارة ستنقلكم إلى مدينة “سالونيك” في اليونان.
الموت أقرب مما يبدو في المرآة
بسرعة، فقط الثياب التي ترتدوها، ثياب نظيفة، لم نعترض، خبّأت مسبحة صديقي في جيبي ذكرى واحدة، ورميت ذاكرة الثياب التي اعتادت همس الأمكنة، رانج روفر قديمة بمقاييس الأحلام الأوربيّة، كنّا خمسة عشر رجلاً ، وطفل جلس بين السائق العراقي ومساعده، ضجيج الابتسامات بنهاية الحلم وبداية الواقع.
رائحة العطر الفرنسي تنخر ذاكرتي، عطر التوابيت، ليست باريس، سيارة خفر الحدود اليوناني، بعد خمسة كيلو مترات فقأت شردة أحلامنا أوقفتنا، فرّ السائق بطريق يبدو لا يعرفه، مرتبك المسير بسرعة مائة وثلاثين كيلو متراً فقط في الخفقة الواحدة.
الصمت يعلو على رائحة الموت، طريق شائكة لم تعرف إلا أقدام الماعز الجبلي، أشجار بلّوط ولكن دون نساء في الثمانين من أعمارهن، السكون أعلى من صوت المحرك، وخفقان القلوب، وادٍ بعيد بعيد وصورة مدى في قعره والجبل عن يميننا شاهق كعلو كعب الحالمين.
الموت أقرب مما يبدو في المرآة، حدّق جيّداً، نصفكم اهبطوا الوادي ميتين، والنصف الآخر اصعدوا الموت في ذرا الجبال لعلّكم ترون الأسباب.
انكسر الحلم الظاعن على كتفي، الحلم يوجع كالكسور، “ربّك ما بدك جبيرة”، احتاج جبر قلبي بدفء أحضانها، تحت هذا القيظ البارد والرطوبة العطشى.
خذلان
لن تصلو وراح، ذهب السائق، بعد أن حطّم حرس الحدود سيارته، وبقينا نتأمل الشمس التي اختبأت وراء خذلاننا..
التيه
خمسة أيام ندور حول أرواحنا بذات الأسئلة، ونبحث عن مخرج من سلسلة جبليّة ونبعة ماء، في الليلة الأولى لم ننم، واصلنا البحث عن طريق ونعود لذات النبعة ذات الدموع ترفدها، لم نأكل كابرنا على قرقرة أمعائنا بمعاني رقرقة الدموع، صباح اليوم الثاني كان يجب أن نتذوق طعم أوراق الأشجار، شجّعتهم كوني أكبرهم يأساً، وأكثرهم بكاءً، فلن تحرق دولتنا العليّة بجهنم، فها هي قد أطلقتنا نأكل من خشاش الأرض ولم تحبسنا.
وفي الليلة الظلماء يفتقد الأمل
السماء تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال، لزِبت الأرضُ طيناً، وانطفأت النار التي آنستنا، لعلّ عابر حلم يراها فينقذنا بقبس يأتيه منها، نامت قلوبنا شامخين بعنفوان فِرخ عصفور كسر جناحه عندما وقع العشّ بين ملهاة قطط، لن أخبر الله بكلّ شيء، هو يعرف أننا سوريون، مرّت بخاطري مدى ، بحثت عن حجر محدّب كعيوننا، وعلى جذع نام واقفاً مثلنا، اختلطت عليه الدموع بالدماء بحرف الميم من مدى
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/902611191129318
الشمس تشرق من عيدان البلوط
على مواويل فراق الحطّابات قررنا جمع أعواد البلوط ، نغرسها رماحًا على الطريق كي لا نضيع في دوّامة، سراب الماء بعد ابتعادنا عن النبع شفّ عن طريق بين جبلين كنا التقينا فيها مع سيارة الدرك اليوناني، ضحكنا قهراً وتابعنا المسير بعد أن أكلنا شجرتي بلوط ونصف دنم من خشاش الأرض.
محطّة القطار والمخافر
سرنا عشرة أيام، آنس جوعنا فيها نباح الكلاب الضالّة، كان علينا دخول مدينة “كومينتيني” لنصل محطّة قطار توصلنا لسالونيك حيث الأمان
قطّاع الطرق
كومنتيني تشبهنا، مدينة بلا ملامح، دخلناها ليلاً، كانت تفوح منها إطارات سيارات الحالمين، وخبز وحشيش وقمر، وفقر بادٍ من مبانٍ أقيمت على حواف عبّاد الشمس، الـ “جي بي إس” تشير علينا هذا الزقاق يوصلكم بمحطّة الخلاص، الزقاق مغلقة كدوامة حرب، دخلناها وجلين، بعد عشرين خطوة وخوف، طوّقتنا مجموعة من الشباب التي تقتات على حلم المهاجرين، من أنتم؟!
“سيريان، إفريكا، أرب، ميديل إيست، إراك”، أحصوا علينا حدود دولنا المرسومة بخطوط الفقرعلى صفحات الحرب بأقلام الطغاة، وأخذوا منّا جهازين موبايل ومئة يورو ستكون كفيلة بأجمل أحزاننا
مدى…مدى …مدى
لا مكاتب تحويل عملات ولا نقود تغني عن ثمن تذكرة العبور إلى أفقنا ، مخفر الشرطة أضحكته قصتنا، حين انزوينا وللحفاظ على سلامة الحرب الباردة أرجعنا اليونانيون إلى الجانب التركي بقارب مطاطي كمهربين، تناقلتنا المخافر.
اشتريت أول باكيت دخان بعد معبر باب الهوى، أشعلت سيكارة وأضاحكهم، هي رجعتوا “آكلين نايمين مسفّرين،” وعند باب مدرسة قريتنا، ذات المدرسة التي أغلقت الحرب أبوابها، فبحثت بين البلوط عن كتاب العلوم لمدى، ناديت مدى مدى مدى ، واحتضنت الوطن.