تندثر العائلة.. يمضي جميع أفرادها كلٌ في شأنٍ يُغنيه في هذه الحياة، لتبقَ أسماء “اسم مستعار” (درعا، 29 عاماً) أسيرةً لغدر ذاك الصاروخ الذي وقع على بيتهم في صيف 2012.
تقولُ أسماء: لما بلشت فيق ما عرفانة شوفي حوالي، صحيت والدم معبّي المكان، وماحاسّة بجسمي ولا قدرانة حركه بس عقلي عم يدوّر بالزوايا، وأنا لساتني عم حاول قوم لأركض وجيب يوسف وأمّه من بيتهم المقابل إلنا قبل ما ينزل الصاروخ”.
مثل جميع العائلات في درعا البلد، تعيش عائلة العم أبو محمد “درعا، 57 عاماً” لتصحُوا في ذلك اليوم المشؤوم على وفاة زوجة ابنهم وطفلها الصغير ذي الثلاث أعوام..
لم يكتفِ ذاك الصاروخ بما أخذ، ليضيفَ إلى حصيلة الضحايا إصابة بليغة للابنة الكبرى “أسماء” .
يقول العم أبو محمد: “سمعنا صوت القصف بالشارع ودخلت أسماء تركض لتجيب يوسف ووالدته من بيتهم، بس ما لحقتهم..
وقع الصاروخ ع الغرفة يلي كانوا فيها وتوفوا الاثنين بنفس اللحظة، وأسماء تصاوبت من الشظايا، الإصابات بجسمها كانت خفيفة مقارنةً بإيدها اليمين يلي تهشّمت”.
بعدَ هذه الحادثة المفجعة انتقلت أسماء “اسم مستعار” مع والديها وأختها وابنتي أخيها الصغيرتين إلى الأردن، وتم الموافقة على دخولهم بسبب الحالة الحرجة لها، استقروا في إربد لتبدأ رحلة العلاج الشاقّة برفقةِ والدها الخمسينيّ الذي لا يجد قوت عائلته لتتكفل بعض الجمعيات وتتبرع لهم بفتاتٍ يكادُ يكفيهم على الحياة الصعبة في الأردن..
تمكثُ أسماء بمشفى في عمان تحت المراقبة قرابة الأربعة أشهر ثم تخرج، لتستطيع الانتقال للعيش مع أهلها في إربد بشرط أن تأتي يومياً إلى المشفى للمراجعة.
سمر “اسم مستعار، 24عاماً” الأخت الصغرى لأسماء تُحاول البحث عن عمل لتعين والدها في شبح تكاليف المواصلات اليومية للمشفى من إربد إلى عمّان، ولكن لا سبيل لذلك لأنّها مثل حال جميع اللاجئين لا تستطيع العمل في أي مكان بصفة قانونية، ولن تغامر أي جهة لتدفع الضريبة الباهظة لاحتواء لاجئة سوريّة لديها في حال معرفة الجهات المختصة بذلك، وتفشل خطة سمر في البحث عن عمل..
بعد عام من دخولهم تسعى صديقةٌ سوريّة للعائلة والتي تسكن في مدينة السلط بالأردن، لتسجيل اسمهم في سكن مجاني للسوريين، تتم الموافقة ويذهب المُسؤول عن السكن بسيارة خاصّة ليأتي بالعائلة من إربد في الشمال الأردني إلى السلط التي تقع في وسط الأردن.
يجدُ “أبو محمد” في هذه النقلة فسحةً من الأمل، المسافة أقصر ما بين السلط وعمّان حيثُ تبلغ ثلث ما كان يقطعه سابقاً، تلك العاصمة الأردنية التي يقصدها وابنتهِ بشكل شبه يومي طِوال هذه الأشهر.
ولا تزالُ أسماء تعاني مرارة الألم في كل يومٍ.
تلك الرحلة الشاقّة من العلاج والتي تصفها أسماء بقولها:
“بكل يوم بيكون عندي عملية ترميم جديدة بحسه أول يوم بالإصابة، بحسه لحظة يلي فقت وبلشت أستوعب إنّي تصاوبت وشفت إيدي كيف يا دوب معلّقة بجسمي، أغلب الأيام ما أعرف النوم فيها”.
إذا نظرت لملامحها فترى الألم مُسكنا لجوارحها، لا يمكن وصفه ولا احتماله، إلا أنّها تُحاول الصبر حينما ترى وجهِ أبيها الذي أكل الطريق إلى عمّان من صحتهِ، تُكابرُ فوق ألم جسدها الذي بات أغلبه يعاني ندوب وآثار عمليات الترميم، تحاول أن تواري ألم الليلِ بابتسامةٍ في الصباح عند سماعها لترتيلِ الدعوات من والدتها فجراً..
الليل الذي لا تعلمُ على أي جنبٍ تنامُ فيه، كل جسدها يؤلمها، تُمضي ساعات الشتاء البارد تتقلّبُ لتجد جانباً أخفُّ ألماً من الآخر، يبزغ الفجر ولم تنم فيه دقائق معدودة لتذهب في الصباح إلى عمّان..
يالها من فرحة حينما تتصل المشفى لتخبرهم بأنّ موعد اليوم قد تأجّل بسبب إجازة الطبيب المشرف عليها.
ابتسامةٌ تُشرق في المنزل، لم أكن أعلمُ سِرّها آنفاً، ولكن لا ريب بأنّها تعني تأجيل عذاب التغيير على العملية الجديدة، ومجزرة سلخ القماش عن تلك اليد التي باتت مجمعا للحمٍ تمّ أخذه من أماكن مختلفة من جسدها، ليتجنب الأطباء عمليه البتر.
ذلك الجزء الصغير الذي رأتهُ أسماء يكادُ يُلصق ما بين الساعدِ والعضد، هو خيط الأمل الذي بنى عليه الأطباء رحلة العلاج..
ولكن من شدّة الألم تمنّت أسماء في أيَّامٍ كثيرة لو أنّه لم يكن موجوداً.
تبدأ حالة أسماء بالتحسن في بدايات العام الثالث من دخولهم للأردن، تخفّ مراجعاتها للمشفى وتبات المواعيدُ تُحسب بالأسابيع، وفي ربيع ٢٠١٥ رأيتُ أسماء ليست كما عهدتها، تُشارك في إحدى الجلسات التي تجمعنا، تتقلبُ على الأريكةِ كما تشاء رويداً رويداً، تحسنت ولكن هذه السنوات أورثتها الخوف من أي حركةٍ غير محسوبة لأي عضو في جسدها.
تبزغُ الشمسُ من جديد في بيت العم أبو محمد، ويرتاحُ قليلاً من مشقة السفر..
وفي يومٍ كسائرِ أيّامهم الهادئة من أواخر صيف ٢٠١٥ بعد استقرار حالةِ أسماء، يرتفع السُكّر عند والدتهم، ليتم نقلها إلى المشفى وتتوفى من فورها..
صدمةُ خسارةِ أمّهم ليست كغيرها، الوجه الذي يُطمئن العائلة، الحنون الهادئ، فجأةً يغيبُ عنهم إلى غيرِ عودة..
لِتبقَ الفتاتان (أسماء وسمر) وابنتي أخيهم (نور “٩ سنوات”، لبابة “٧ سنوات”) ووالدهما الذي شارف على الستين، في البيت الخاوي من الفرح، لا يُزينه إلا طلبات الفتاتين المدللتين بدفترٍ جديد للمدرسة، أو ربطةُ شعرٍ زهريّة اللون، أو لربما فستان أبيض في نهاية الفصل الدارسيّ لحضورِ حفل التخرّج.
تسوء حالةُ والدهم الصحيّة لتتطلب السفر خارج الأردن للعلاج، يطلبه ابنه في ألمانيا، تتم الموافقة على “لم الشمل” يسافرُ الأب ويبدأ برحلة علاجٍ أخرى، ورائحة المشافي ما لبثت أن تغادره، وشبح المريول الأبيض لم يُمحَ من ذاكرته بعد.
وبعد هذه الأيام المتشابهة تُخطبُ “سمر” الأخت الصغرى لشابٍ أردنيّ يُحبها ويكرمها بعد أن فسخت خطوبتها ثلاث مراتٍ من أشخاص تقدّموا لها خلال هذه الأعوام المنصرمة.
وتبقَ أسماء الأخت الكبرى الحنونة خلال هذه السنوات في ذات المكان والمنزل برفقةِ الفتاتين ترعاهما كابنتيها، والأيام تكررُ ذاتها ما يقارب الخمس سنوات، وفي العام الجاري تُبلغ أسماء من العمر ٣٨ عاماً لتخطبُ لرجلٍ كريم يدخلُ إلى حياتها لتتلون بالفرح بعيداً عن رائحة الشاش المعقم والمريول الأبيض وكثرة الزائرين مع أطباق الحلوى لتهنئتها بالسلامة عقب كل عملية، لتنتقل بعد أسابيعٍ قليلة إلى بيته برفقةِ ابنتي أخيها.
مريم رحمون
المركز الصحفي السو ري
عين على الواقع