جلست أم مخول مستندة بظهرها الى الباب الخشبي الكبير باب بيت ( العيلة) ، بعد أن أفرغت دست المتبلة ( الحنطة المدقوقة ، مع الحمص المتبل باللبن ) في أوعية واسعة كي تبرد ، لأنها لا تؤكل الا باردة ، وهي الغذاء الأساسي في كل بيت من بيوت القرية ، وقد أمسكت قصبة طويلة ، لتكش الدجاجات البلدية الفضولية ، اللاتي ملأن الدار المرصوفة بالحجارة ، والتي تغتنم الفرصة لتعيث فسادا” ، كانت تنود نائمة ، وماتلبث أن تستيقظ صائحة : كش ، كش ،كش ، وهي تحلم أن الدجاجات دخلن البيت ، فترفع الدجاجات رؤوسها مستغربة ، وقد هجعن في الظل ، وفتحن مناقيرهن من شدّة الحر ، وتعود أم مخول للنوم القلق من جديد .
صمت مريب قاس، يرين على المكان ، الصهد يتصاعد سرابا” غتيتا” ، محولا” المكان الى فرن ، انه شهر الحصاد والناس ينتظرون دورهم به ، فالحصادات قليلة ، والخوف والقلق يلف النفوس المترقبة المتعبة .
فجأة” دوى صوت مرتجف ، مشروخ ، اخترق أزقة القرية الهاجعة ، انسرب في المنحنيات ، اصطدم بالجدران ، بكتل البناء ، توزع في كل الاتجاهات ، ليخلّف قشعريرة مرّة في الأبدان المتوجّسة الخائفة وليكسر الصمت مبددا” ايّاه : حريييييييييق ،اخترق أذني أم مخول ، قفّ جسدها ، وسرت به قشعريرة عنيفة ، نهضت فسقطت ، حاولت أن تنهض مرة أخرى ، أصبح جسدها كتلة رصاص ، انقلبت على صدرها ، قامت على أربع ،جأرت كحيوان جريح : سترك يا الله ، مخوووووووول ، عيسى ، الياس ، لكنهم كانوا قد انطلقوا مندفعين ، حاملين رفوشا” ومعاول .
صعدت الدرج حبوا” ، وقفت على السطح واتجهت جنوبا” ، انبسطت سهول القمح أمامها كالطبق ، الدخان يتصاعد من الجهة الجنوبية الغربية ، أسود كثيفا” ، لفحتها ريح غربية ، صرخت من بين دموعها : ارحمنا يا الله فلدينا أطفال ، يا الله الهواء ، انه يزيد اشتعال النار ، جاءها صوت ممطوط من جهة الشمال، أصغت ! ( الله واكبر ، حيّا على الفلاح ، حيّا على الصلاح : حرييييييييييييييق ، ياجيرة الله ، حيّا على الفلاح هذه المرة من الشرق :حريق ، حريق، حريق ، حريق ، ( على طلق النفس) الجيران ، أهلنا ، وماهي الا هنيهة حتى نبقت الجرارات والحشود من الشمال والشرق ، نخّت على ركبتيها ، بكت ، وهذه المرة فرحا”، صرخت بملء قلبها : حيّا النشامى ! قفزت كالنابض ، فردت منديلها الحريري الأبيض ، لوّحت به راكضة شرقا” وشمالا” ، تحوّل ركضها رقصا” بلديّا”حماسيا” ومنديلها راية بيضاء ، تخفق بقوة مع حركتها ، غنّت أغاني الحصاد التي كانت تغنيها ، وهي تغمّر القمح بالغمّارة ، ودموعها نبع ربيعي ثر : (عالراس ميي باردة ، مشروب للطواردة ، مشروبكن يا ضيوفنا ، سكر وميي باردة ) ، أطلقت زغرودة طويلة ، تدحرجت في هذا الجو الموتور ، جاوبتها زغاريد كثيرة حطمت بقايا الصمت الثقيل ، مكسرة الفضاء الملتهب ، تحولت القرية بركان حركة وأصوات ، فلم يعد يسمع الا وقع الأقدام ، وقرقعة صفائح التنك ، ونداءات متداخلة مبهمة .
ثلاثة أرتال من رجال كالسباع ، والصبايا لبوات جميلات يركضن وقد بلل الماء ثيابهن ، لم يشعر أحد بالتعب ، فلا وقت له الآن ، حاولوا اخماد النار بالتراب ، بالماء ، بالمعاطف ، بالأردية ، وما تلبث أن تأتي هبّة ريح فتشبّ من جديد ، والجرارات تحرث الأرض كي تقطع امتداد النار .
ساعات طويلة من الصراع المر مع النار والدخان والهواء والغبار والحر، أخيرا” سيطروا على الحريق ، ولكن بعد أن أتى على حقول واسعة .
الوجوه واجمة حزينة ، مسودة مقهورة ، دموع غزيرة ترسم سواق صغيرة على الخدود المغطاة بالسخام .
وقف أمين أبوحنا على رأس أرضه التي لم يبق منها الاّ قطعة صغيرة ، أخرج قدّاحته من جيب سترته المحترقة ، والتي استخدمها كمطفأة ، صرخ أبو نادر : ماذا تفعل؟! الله أعطى والله أخذ ! حدجه بنظرة حادة كالسهم وأشعل النار بما تبقى ، نظر الى أبي نادر قائلا” بتحد : مادام قد أعطى لماذا أخذ ! ، خلّيه يشبع ، تمتم أبونادر : أستغفر الله العظيم .
صرخ أبو حسن بقي نصف أرضي لن أترك أحدا” جائعا” ، انتخى أبو صادر ، أبو علي ، أبو طنوس الخ ….
قال أبو حنا بصوت واهن : ( الأكل دبس ، علّق عشيربو ) واتجه الى القرية .
خبا نور الشمس ، وقد بدأت تنحدر خلف الجبال ، انزلقت بسرعة خجلة مما حدث تاركة لونها الأحمر الداكن يعم المكان ، نشر الليل عباءته السوداء شيئا” فشيئا” ، وبدأ يقضم تضاريس النهار ، أتى على كل شيء ونشر ظلمته الموجعة ، فلم تعد ترى الا أزولة تتشاحط على الدروب المتربة .
انطلق صوت أجش مضمخ بالحزن والأسى : ( ياثوب حزني ، اجرد وزيدك نيل ، ويلي أويلي ، أخوي وابني ، ماهم غلاة الزين ، ويلي أويلي ) وأجهش بالبكاء .
أجابه صوت نسائي حنون ، حزين ، يحزّ في القلب اخترق الليل الساكن ، تقطعه شهقات مؤلمة حارقة : ( نايل يريد يهجر ، نايل يريد يموت ، عجز حكومة حلب ، دزو على بيروت ) .
واستمرت عصة المنجل
يتبع ……….
نقلا عن صفحة الاستاذ منذر حنا