بزعيمة لا يعرف وجهها ولم يلتق بها إلا القلة والصف الأول من جماعتها، نشأت جماعة القبيسيات كحركة اجتماعية دينية ذات مبادئ ومصالح معينة تدافع عنها، اتخذت منهجا بعيدا عن السياسة السورية إلى أن أعلنت أحد زعيماتها ولاءهن لبشار الأسد بعد أحداث 2011، وأثار وفاة زعيمة الحركة ومؤسستها منيرة القبيسي أمس عن عمر ناهز 89 عاما جدل كبيرا بعد ثناء أطياف سورية معارضة بارزة عليها، وخرجت ردات فعل غاضبة من الشارع السوري على اعتبارها مؤسسة لجيل دعم بشار الأسد ونظامه علنا رغم الجرائم المرتكبة بحق السوريين، وحالة صمت مريبة من الزعيمة نفسها والتي لم تفصح عن أي موقف تجاه جرائم النظام إلى وفاتها.
كيف نشأت حركة القبيسيات في سوريا؟
ولدت مؤسسة الحركة في عائلة مستقرة ماديا ومحافظة في دمشق عام 1933، ضمت أسرتها عشرة أطفال: ستة شباب (بهجت، وليد، موفق، ماهر، ممتاز، رضوان) يعملون في التجارة أو المهن ذات الكفاءات العلمية العالية، وأربع فتيات يعملن ربات بيوت. ودرست منيرة في مدارس العاصمة السورية إلى أن نالت إجازة في العلوم الطبيعية، استندت اليها في التدريس في مدراس حي المهاجرين وبقية أحياء دمشق. التحقت بكلية الشريعة بدمشق وتقربت من دروس مفتي سوريا السابق أحمد كفتارو، ثم ابتعدت عنها بعد ممارسة الكفتارية الوصاية على أفراد القبيسيات، ومنابذة ابنة الشيخ كفتارو “وفاء” في مسجد أبي النور كداعية إسلامية ومنافسة حادة لمنيرة السيدة التي برزت كناجحة ونشيطة، لكنها لم تقطع صلتها بكفتارو الأستاذ لوالدها وعمها أبو الخير القبيسي أحد أبرز تلامذة كفتارو.
وكانت سوريا في الستينات تشهد نشاطا فكريا شيوعيا وليبراليا ودعوات لتحرر المرأة التي نادى بها رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وغيرهما، الأمر الذي عزز حاجة ملحة لدى الحركة لحاجة دينية لتحقيق الانتماء والذات، وتمكنت الحركة من جذب الكثير من الدمشقيات من العائلات المعروفة والغنية لتبدأ معهن دروسا اتسمت بالاعتدال تارة والشدة تارة أخرى. وعقب أحداث الثمانينات، وقتل حافظ الأسد لكثير من رجال سوريا طالت الآباء والأزواج واعتقالهم، تمكنت الحركة من المحافظة على الطابع الديني في ظل ظروف أمنية قمعية ووجهوا النساء بتلك الفترة تزامنا مع بروز نشاطات الكفتاريات على رأسهم وفاة ابنة كفتارو، وصباح الجبري، الزوجة الثانية للشيخ أحمد التي عينت كمدرسة رسمية عن طريق وزارة الأوقاف على الرغم من كون المناصب الثابتة للنساء محدودة جدا وصعبة.
قيادات الحركة وانتشار نشاطها
تعد مدينة دمشق حاضنة الحركة الفعلية والتي تقصدها الوفود النسائية لرؤية الآنسة الكبيرة أو كما يطلق أتباعها عليها “الحجة” منيرة، وتخرج قسم كبير من قياداتها النسوية من كلية الصيدلية في دمشق. تلت دمشق مدينة حمص، لكن الجماعة تمكنت من الدخول لمؤسسات مجتمعية وجمعيات خيرية ومنظمات مرخصة قانونيا في حمص، عملن تحتها وانقسمت بشكل واضح لجناحين اختلفا، الأول يتبع للآنسة وفاء حمدون التي قتل النظام أخاها في أحداث الإخوان بالثمانينات، وعملت الحمدون على التنسيق مع جمعية البر والخدمات الاجتماعية، والتيار الثاني يتبع للآنسة أمية أبو زيد التي استطاعت من خلال مدرسة طلائع النور اختراق المجتمع الحمصي بعد زيارة أسماء الأسد لمدرستها، كما انشقت عن جماعة القبيسيات مجموعة صغيرة تسمى “روضة الثناء” واتخذت طريقا مغايرا للقبيسيات باتجاه مجموعة الأحباش اللبنانية بعد نبذها من الجماعة لكنه لم يلق رواجا كما شعبيا كما توقعوا.
أما في حلب لعبت عراقة المدراس الدينية والطرق الصوفية كمتراس أمام انتشار الجماعة في المدينة، وتوقفت نشاطاتها التوسعية أمام التدين التقليدي الحلبي. شهدت الجماعة نشاطا خارجيا أكبره في الكويت حيث أسست أميرة جبريل أخت الراحل الفلسطيني أحمد جبريل المتبني للنهج اليساري وزعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الداعم للنظام، “بيادر السلام” في الثمانينات، فسميت في الكويت ببنات البيادر، وتم ترخصيها بمساعدة الكويتي يوسف هاشم الرفاعي والتحقت بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وبدأت مؤخرا أصوات خليجية بالتحذير من الجماعة ومنهجها في تلك الدول. وقال الناشطة السورية بيان ريحان أحد المنتسبات للجماعة والمنفصلة عنها لاحقا على صفحتها فيسبوك أمس” أن هناك سيدة اسمها فاطمة خباز تعد بالمرتبة الثانية بعد منيرة القبيسي، قتلها النظام ببداية الثورة، خلال عودتها لبيتها بعد موقفها المؤيد للثورة وهي بعمر الـ70 سنة، مضيفة أن النظام كان مخترق للجماعة.
ما الأصول الدينية والفكرية التي تتبناها الجماعة؟
عرف عن الجماعة اتباع المنهج النقشبندي الصوفي كونه السائد في البيئة الدمشقية والسورية عموما، فكانت نشاطات الجماعة التعبدية لا تخلو من أذكار وأوراد وأدعية مستوحاة من المنهج النقشبندي على التحديد، والتي ورثته أميرة القبيسي عن أستاذها الأول أحمد كفتارو ناشر الطريقة في دمشق. لكن هذا الإطار تغير مع مرور الزمن وخرج من عباءة الدروشة. لاقت الجماعة دعما من التيارات الدينية التقليدية للبوطي الذي قال عن الجماعة أنهن يمثلن الإسلام الحضاري والوطني الواعي البعيد عن الغلو المترفع عن النفاق. كما استندت الجماعة إلى مناهج أساتذة معهد الفتح كعبد الفتاح البزم ود. حسام فرفور والشيخ عبد الكريم الرفاعي ووهبة الزحيلي. ولا يخفى غض الطرف الأمني والتعامل المعتدل من النظام الحاكم في سوريا مقارنة بغيرهم من الجماعات الدينية، فكانت الجماعة تمارس نشاطها منذ 40 عاما بشكل سري، لكن لم يخف على النظام تلك النشاطات والقيادات للحركة، ما أشار إلى رضا ضمني عن أنشطتهم التي لا تصطدم مع السياسة للنظام.
منعت منيرة القبيسي مريداتها من حضور دروس ونشاطات مجمع أبي النور أو أي جامع تابع له بل وأي مجمع أو جامع آخر، ومن تفعل ذلك توبخ وتخير بين الالتزام مع الجماعة أو تتركها، وذلك للسيطرة على طريقة الجماعة ما سبب انغلاقها الفكري والاحتكار الديني والادعاء بسلامة الصلة مع الله المحصور في الجماعة. ويبدو أن السبب وراء ذلك هو النظرة الدونية تجاه الكفتاريات أو الجماعات النسائية الأخرى الأقل علميا وشرعيا واجتماعيا وصولا لطريقة اللبس للأخريات. ولا تملك القبيسيات مشروعا فكريا واضحا أو تجديدا دينيا بل انصب التركيز على القيم الإسلامية ونشرها بين صفوف النساء بتدريس سير الأنبياء والصحابة والتابعين وحفظ القرآن والتجويد إضافة لممارسة فنون التمثيل والإنشاد المستقى من ألحان أغان دارجة مدموجة بكلمات دينية تتحدث عن القيم الإسلامية.
ومن الكتب التي تدرس ضمن الجماعة كتاب “المتاح من الموالد والأناشيد الملاح”، لنوال الفتوح الذي عده نقاد مليئا بعبارات الحلول والاتحاد، وهذا الكتاب لا يتداول إلا في مراحل متأخرة من الدروس وفي حلقات خاصة. وكتاب “مزامير داوود” أقدم من الكتاب السابق، على شكل نوتات ألفته مجموعة آنسات يدرسن في تلك الحلقات يحوي أناشيد وشعر تقدس الشيخة منيرة ومليء بالتشبيه الإلهي.
ولأجل بناء هوية خاصة بالجماعة عكفت آنسات رغم النقد الموجه لهن على تآليف مجموعة كتب تكون مرجعا مستقلا للجماعة، ككتاب درية عطية “فقه العبادات” الشافعي، وكتاب نجاح الحلبي على المذهب الحنفي، وكتاب سعاد زرزور الحنبلي وكوكب عبيد “فقه العبادات على المذهب المالكي”، وانتهجت الجماعة الأشعرية عقيدة والصوفية طريقة، والمذهبي عبادة كتقليد ديني شامل، فدرست جوهرة التوحيد في العقيدة، للبيجوري، والمقدمة الجزرية مع شروحها، وإحياء علوم الدين للغزالي، في التربية والسلوك، ومنهج النقد في علوم الحديث لنور الدين عتر، ومختصر تفسير ابن كثير للصابوني، وفقه السيرة للبوطي، ورياض الصالحين للنووي، وكتب الندوي، ولم تسمح بانتشار كتب ابن تيمية وحسن البنا بل وجرمت ذلك، وقد مدح البوطي كتاب جماع السيرة النبوية لسميرة الزايد وقدم لمختصره وهنأها ومدح كتابها وأنها سبقت كثيرين من الرجال في هذا العصر.
وكانت الجماعة تفصل أي مريدة يظهر منها تعلق زائد بآنستها وتنقل لحلقة أخرى، فالمريدة تستشير آنستها في شؤونها كالزواج والدراسة والوظائف احتراما للآنسة ولخبرتها وتقربا وتوددا تجاهها، وخلق هذا التعلق صورة سلبية فيها استكانة وتسليم، مطلق للآنسة ما خلق صورة سلبية عن انقياد وسيطرة على الطالبات وصل الأمر أن بدأن بكتابة تقارير ونقل ما يتداول بين الطالبات من أخبار وأفكار وتحركات شخصية، لتستغل الآنسة ذلك وتظهر أنها من أهل الكشف والكرامة والولاية الخاصة. ثم تتطور الأمر لأكثر من ذلك، ووصل إلى درجة أن مقابلة الشيخة الكبيرة أو المقربة منها أصبح مسألة تتعلق بالاصطفاء والامتياز من الله تعالي ومن حرمت منه فذلك لأن الله لم يرد لها هذا الاختيار. ويظهر الشطط الكبير في احتكار العلم والوصل لله وحصره في اتباع الشيخات بحسب ما ذكره مركز جسور بدراسة له.
ساعد على انتشار الجماعة دخلوها بين طبقة الأغنياء والطبقة الاجتماعية المرموقة وبين نساء أصحاب النفوذ ورجال الأعمال، حيث أعطت صدقا وقبولا لصورتهن في الأوساط النسائية بشكل واسع، ولكنه لم يكن لأجل السياسة المعتاد بين أغلب الجماعات الدينية السورية، بل لجمع تبرعات لأعمال خيرية مع سرية كي لا تكتسب الجماعة حاضنة شعبية تكشف أمام المخابرات فيلاحقن. وتشرف منيرة على 40 آنسة داعية في مساجد سورية مرخص لهن بالعمل، واشترت رخص واستثمارات وشاركت أصحاب تلك المدراس القديمة، عبر شبكة علاقات لأزواجهن من رجال الأعمال، وخلال نحو ثلاثين عاما أصبحت منيرة تدير حوالي 200 مدرسة خاصة بسوريا، تفوقت على مدراس النظام الرسمي رغم مضايقتها من قبل المخابرات، منها دار الفتح بحي المهاجرين بدمشق، والتي تديرها منى قويدر، ودار النعيم ومدرسة عمر بن الخطاب في المزة وعمر بن عبد العزيز في الهامة، ودوجة المجد في حي المالكي والبشائر في المزة والبوادر بكفرسوسة.
سرية الجماعة وعلنيتها
لم تظهر الجماعة للعلن بشكل رسمي إلا أن استلم بشار الأسد السلطة عام 2000 بعد وساطة المشايخ لخروجها للعلن بنشاطات في المساجد والمدراس ويقول د. محمد حبش أنه دعم خروجهن للعلانية كونها جماعة تعليمية ناجحة لا دخل بالسياسة وأن محاصرتها قد أبناءها للجريمة والتطرف، وبدأ ظهرونهم فعلا عام 2005 علنا. وقال البوطي أنه مع عدد من المشايخ دعوا النظام للموافقة لإظهار الجماعة علنيتها بعد مواثيق لعمل مستقيم ووطني ليس فيه شائبة ولا علاقة بالسياسة إلا أن وصلت القبيسيات للتدريس في المدراس الحكومية وللمراكز الحساسة فشغلت مناصب عالية في وزارة الأوقاف، مما ساعدهن في صياغة منهاج ديني. وفي الوقت الذي كانت المخابرات تعتقل أي رجل له شبهة ارتباط بنشاط إسلامي، كانت الأجهزة الأمنية للنظام تعامل القبيسيات معاملة لائقة وإن حاول المس بإحداهن، اعترض الأهالي والمشايخ وبعض مسؤولي الدولة لمساندتهن. وقد أعلنت الجماعة العلنية دعمها الكامل لبشار الأسد ووصفته بصاحب اللب والعقل الراجح وأنهن على دربه، عرضها تلفزيون النظام الرسمي وقنواته الإعلامية.
معارضون ينعون وفاة منيرة وجدل كبير
نعى معارضون بارزون شيخة الجماعة القبيسية منيرة القبيسي أمس التي توفيت في دمشق، فنعاها الرئيس السابق للائتلاف أحمد الخطيب ووصفها بالمربية الفاضلة. كما نعاها الدكتور عبد الكريم بكار زاعما أن الأمة فقدت داعية فاضلة أسست جماعة مهمة حديثا. ودعا لها بالرحمة والمغفرة. كما قال الدكتور أحمد السعدي السوري المعارض المدرس في جامعة باشاك شهير مادحا إياها أنه لا يظن أنها توقعت وصول دعوتها هذا المدى وأشاد بوصول دعوتها لخارج سوريا. كما رثى الكاتب محمد خير موسى منيرة وأثنى عليها وأشار لكتابه عنه القبيسيات وأوصى بقراءته، ونعاها رئيس المجلس الإسلامي السوري المعارض عبد الكريم الرفاعي والمتحدث الرسمي باسمه مطيع البطين في حساباتهم فيسبوك، وسط انتقادات وجدل شعبي من نشطاء وكتاب كثر على هذه الثناءات والمدائح من معارضين بارزين، متهمين الحركة أنها دعمت النظام السوري وسكتت عن جرائمه وأنشأت جيلا من السيدات خربت عقولهن وأفسدته بعد النأي عن السياسة.
مع وفاة زعيمة الجماعة وخروجها للعلن لابد أن تغيرات قد طرأت وتطرأ على طبيعة نشاطها العلمي، فبعد النأي السياسي شاركت الجماعة بدعم رأس النظام، وبعد السرية التامة، خرجت للعلن، ويبقى التساؤل عن التيارات الدينية القادمة التي يستغلها النظام في الترويج لنفسه وتوسيع حاضنته الدينية، ويفتح الباب عن مدى مصداقية الحاضنة الدينية المعارضة أمام السوريين اللاجئين والنازحين بعد السخرية والانتقادات التي طالتهم بسبب الموقف الأخير.
تقرير خبري/ محمد إسماعيل