العجز إنسانياً ودينياً عن إقامة “هدنات رمضانية”العجز إنسانياً ودينياً عن إقامة “هدنات رمضانية”
ليست المرّة الأولى التي يلجأ فيها الوسطاء إلى مناسبة حلول شهر رمضان المبارك لحثّ المتقاتلين وإقناعهم بوقف إطلاق النار أو بهدنة احتراماً لشهر الصوم وما ينطوي عليه من تعبّد وتطهّر، بل على الأقل ما يقتضيه من صون للروح الإنسانية وكفٍّ عن سفك الدماء. ولأن المتقاتلين مسلمون، يعتقد الوسطاء أنهم سيتفهّمون ويستجيبون، إن لم يكن بدافع ديني فبدافع أخلاقي أو حتى بدواعي إراحة المحاربين طالما أن الأمر يسري على الجميع. لكن هذا يفترض أن ثمّة رمقاً من “أخلاقية” لا يزال موجوداً وقابلاً للاستنهاض، وهو ما لم يظهر في أيٍّ من المواجهات التي شهدناها خلال الأعوام الخمسة الأخيرة.
لم يُطلب دائماً، أو تلقائياً، وقف القتال لمناسبة شهر الصوم، والمرّات التي حصل فيها كانت تعبيراً عن يأس وانسداد آفاق وعجز عن دفع الأطراف إلى لحظة عقلانية. ولم يكن ذلك ليمرّ من دون اشتعال المواقع بالجدل حول “رأي الدين” طالما أن الهدنة مقترحة على خلفية حدث ديني. هنا تنشط الفتاوى والشروح التي لا تنسى تحريم الدم كمبدأ واستهلال لكنها عندما تغوص في تحليل حكمة الأشهر الأربعة الحرم، ورمضان ليس منها، أو في تعليل جواز القتال وعدم جوازه، تختلط فيها الحجج والذرائع بحيث تُبقي الأمر رهناً بـ “الضرورة”، دفاعاً أو هجوماً أو درءاً لخطر محدق كما في الآية 217 من سورة البقرة: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}.
لكن المآسي الحاصلة أمام العيون لا تحتاج إلى أكثر من وقفة إنسانية، ولا إلى أكثر من القول إن أي سبيل لوقف القتل مرحّب به كيفما جاء، خصوصاً أن الكثير من القتال بات عبثياً وإجرامياً ولا يقبله القرآن الكريم ولا أيٌّ من الكتب المقدسة. فالتقارير الواقعية المتداولة على نطاق ضيّق في العواصم الغربية تتضمّن أرقاماً مذهلة لعدد الضحايا في سوريا والعراق، وتمتنع هذه العواصم عن إعلان تقاريرها لئلا تُواجَه بالاستفهامات عن مسؤوليتها السياسية أو عن تقصيرها الإنساني. فالاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، أو كان يُظنّ أنه واحد، برهن في نسخته العربية أن أشد شراسة ووحشية من أي قتال بين بلدَين أو شعبَين عدوَّين. فالنظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون يجهرون بالإصرار على استخدام حصارات التجويع لداريّا والمعضمية ومضايا ولتسع مناطق أخرى لا يسمحون للإغاثة الدولية بالوصول إليها، مثلهم مثلَ ميليشيات “الحشد الشعبي” العراقية التي تفهم “تحرير الفلوجة” قتلاً لسكانها وحرقاً ونهباً لممتلكاتهم.
فيما كان المندوب الروسي في الأمم المتحدة يحاجج ضد فكرة إنزال المساعدات جوّاً، كان زميل له في موسكو يقول إن “من الصعب” تطبيق “هدنة شاملة” اقترحتها المعارضة السورية خلال شهر رمضان. ولعلهما معذوران، فالاعتبارات الإنسانية كما الدينية لا وجود لها في قاموس الحروب الروسية، لكن يبدو أيضاً أن لا وجود لها في قواميس نظامي دمشق وطهران وميليشيات بغداد، أو حتى ميليشيا الحوثيين التي أعلنت أنها تناقش “هدنة رمضانية” مقترحة وقد توافق عليها لكن ليس من دون مقابل، كما تفعل في المساومة على إطلاق يمنيين لأسرى يمنيين. أما تنظيم “الدولة الإسلامية/ داعش” فبدا خارج هذا السجال، وإذ يقول المتخصصون بشأنه إنه الأكثر “التزاماً” بالنصوص الدينية فإنه دعا أنصاره إلى تنفيذ هجمات ضد الولايات المتحدة وأوروبا “خلال شهر رمضان”.;
العرب