بين حين وآخر نسمع عن توقف صدور بعض الصحف الورقية في مختلف أنحاء العالم، وغالبا ما تكون الأسباب ضيق ذات اليد وشح الموارد وانعدام التمويل، وكثيرا ما تكون بين الصحف المتوقفة عن الصدور جرائد عريقة ذات تاريخ مجيد في دنيا الإعلام المطبوع.
وشهدت الساحة الإعلامية العربية مؤخرا تعطل صدور صحيفتين لبنانيتين عريقتين، وفي تحقيق تلفزيوني على إحدى الفضائيات نسب المتحدثون من ذوي الاختصاص الإعلامي أسباب توقف طباعة الصحف الورقية إلى أمور شتى منها قلة الموارد وتناقص أو انعدام التمويل السياسي والاقتصادي أو الحزبي، انخفاض حجم التوزيع والبيع، شح الإعلانات وخاصة الإعلانات الرسمية (الحكومية)، بالإضافة إلى تنافس وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والإلكترونية.
وأفاد أغلب المواطنين من الجنسين الذين استطلع آراءهم التحقيق التلفزيوني أنهم لا يقرؤون الجرائد إلا نادرا وعن طريق الصدفة فقط، مبررين ذلك بأن وسائل الاتصال الإلكترونية وخاصة الهاتف المحمول تقدم لهم الأخبار بأنواعها بصورة آنية لحظة حدوثها وهي (تازة) ولا ينتظرون قراءتها (إكسباير) في جريدة اليوم التالي الذي يكون فيه الخبر قد تغيّر أو تطور أو زال أثره.
نعم، إن عصرنا الإلكتروني وضع أمامنا خيارات متنوعة وحيوية لمتابعة الأخبار ومسيرة الأحداث هنا وهناك وفي كل مكان، كما مكنتنا الأجهزة الحديثة المحمولة وسريعة التطور من متابعة ما نشاء أينما نكون شريطة توفر إمكانية الارتباط بشبكة الإنترنت، ومع كل هذا تبقى للصحافة الورقية نكهتها الخاصة، فبالإضافة إلى كونها ليست مجرد أخبار إكسباير، فهي متنوعة المضمون والأساليب، ولتقليب صفحاتها متعة وجاذبية تلمسهما بين أصابعك.
أنا أقرأ جريدة “العرب” في طبعتها الإلكترونية، ولها جاذبيتها وحسنة سرعة اختيار ما أريده بسبب حسن الترتيب والتبويب، وأيضا لسرعة وصولها لي وأنا في بيتي أمام الكمبيوتر، ولكنني استمتع أكثر عندما أمسك جريدة “العرب” الورقية بين يدي، حيث أشعر أن بيني وبينها علاقة وجدانية حميمة، وأن ما أقرؤه يبقي عندي، لي، مجسدا بين يدي أو ينتظرني فوق مكتبي أو جوار مقعدي أعود إليه متى شئت.
صحيح أنني أستطيع أن أعود متى أشاء إلى مواقع النشر الإلكتروني واسترجع ما أريده أو ما فاتني، هذا إن بقي متاحا على الإنترنت، وأن أتصفح بسرعة وأنا في الطريق أو في وسائط النقل، ولكن لتصفح الجريدة الورقية نكهة خاصة أكثر من مجرد الإطلاع على الأخبار وهي بلا شك في الجرائد أخبار الأمس، ولكن الجريدة تحتوي على الكثير غير ذلك، صحيح أن الجريدة الورقية لا تنافس المواقع الإلكترونية ولا البث الفضائي المباشر من حيث السرعة والتكثيف والآنية والصورة والصوت المرافق والمؤثرات المرئية والمسموعة. ولكن الجريدة بين يديك تختلف من حيث التفاعل النفسي معها أو المشاعر.
يقول العلماء إنه كلما ازداد عدد الحواس التي تشارك في نشاط إنساني معين زاد إحساس الشخص بما يفعل أو يمارس، وأنا أعتقد أن معظم الحواس تشارك في عملية قراءة الجريدة الورقية، أولا حاسة البصر طبعا حيث نقرأ ونشاهد الصور والخطوط ثم حاسة اللمس حيث نمسك الجريدة ونتلمس أوراقها، وحاسة السمع حيث نسمع صوت ورقها وتقليب صفحاتها، وحاسة الشم حيث رائحة الورق والحبر والطباعة، وربما حتى حاسة التذوق لمن يبلل طرف إصبعه كي يقلب الصفحات! بينما وأنت تتابع الخبر على المواقع الإلكترونية والموبايل تستعمل حاسة البصر وربما أيضا حاسة السمع!
ربما في فرضيتي هذه شيء من الطرافة أو المزاح، ولكن فيها بالتأكيد الكثير مما يستدعي التفكير والتأمل حول متعة التعامل مع الصحافة الورقية التي تتراجع منزلتها العملية والإجرائية أمام زحف وسائل النشر الإلكترونية بسبب طبيعة العصر الذي نعيشه، عصر العجلة والوجبات السريعة على الماشي والتي قلّلت من جلوس الناس المتروي إلى موائد الطعام المتنوعة الشهية.. التي هي الصحيفة الورقية.
صحيفة العرب