تعصف الذكريات في أذهان السوريين، ذكرياتٌ جلها ألمٌ ودمٌ وخراب، تركت في نفوسهم دماراً كبيراً وجروحاً لن تلتئم.
يقفُ الأطفالُ والنساءُ والرجال طوابيرَ أمام فرن “حلفايا” الآلي، ينتظرون لقمة عيشهم ورغيف خبزهم.
في الثالث والعشرين من كانون الأول عام 2012، خرجت طائرات الاحتلال الأسدي لتقتل الحياة في تلك المدينة، وتنتقم من المدنيين عقب سيطرة الثوار على المدينة .
تخرج طائرةٌ من “مطار حماة العسكري” ،لكنّ وجهتها لم تكن إلى الجنوب المحتل من الجولان، بل اتجهت شمالاً قليلاً، بمسافة “25 كلم” وهي المسافة الفاصلة عن النصر الذي سيحققه الطيار بحق المدنيين ورغيف الخبز.
يبدأ الطيران بالتحليق، علّه يجد هدفه المنشود، فأكثر مكان مزدحم هو ما يرغبه أولئك القتلة. ازدحامٌ أمام فرن حلفايا الآلي. ينقضُ الطيارُ بخسة ونذالة ليرمي حمم صواريخه على الطوابير المتراصة أمام الفرن.
اشتعلت النيرانُ وفارت نوافير الدماء، واختلط الخبزُ بالدم والبارود. لم تستطع الوحدات الطبية آنذاك تدارك الموقف، فالإصابات بالمئات، والخطب جلل، قيد أيدي الناس وربط ألسنتهم.
93 شهيداً صعدت أرواحهم الطاهرة نحو بارئها، بإحصائية وثقتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان. خرجوا نحو جنات الله وعفوه، يشكون ما قاسوا وعانوا من آلام وضنك وظلم كابدوه في ظل الاحتلال الأسدي؛ لتبقى أجسادهم المعانقة لرغيف الخبز خير شاهد على وحشية الجلّاد الحاكم وإجرامه، وليبقى رغيف الخبز المغمس بالدم خير دليل على محاربته من قبل قاتلي الحياة والإنسانية.
وليس غريباً على نظام حارب الحجر والشجر والبشر أن يحارب رغيف الخبز. ففي عام حدوث المجزرة في حلفايا 2012، استهدفت آلة القتل الأسدية أكثر من “30” فرناً في مختلف مناطق سوريا، فبعد يومٍ واحدٍ من مجزرة حلفايا، مجزرةٌ جديدة أمام فرن تلبيسة في ريف حمص الشمالي، راح ضحيتها العشرات بين شهيد وجريح، تلاها مجزرة في مدينة البصيرة في دير الزور أمام فرنها أيضاً راح ضحيتها 22 شهيداً.
وفي العام ذاته، قصفت قوات النظام السوري فرن داريا في ريف دمشق، وفرن قاضي عسكر بحلب، وفرن كفرعويد بجبل الزاوية بريف إدلب.
استمر النظام في ذلك العام بقصف الأفران في معظم المدن السورية، واستمر غمس الرغيف بالعرق والدم.
ولم تقف جرائم النظام عند هذا الحدّ، فكل شيء يساعد الناس على الاستمرار هو هدف مرصود لحمم بطشه، فأسواق الهال، والخضار، والأسواق الشعبية، شهدت مجازر كبيرة في سنوات الثورة العشر، وكان منها مجازر أسواق أريحا، ومعرة النعمان في ريف إدلب.
واليوم، وبعد عشر سنوات من الحرب والدمار الذي خلفه النظام السوري، مستعيناً بقوى استعمارية ضد بلده، يطل علينا بمفهوم “العدالة التصالحية”، هذا المفهوم الذي يعني مساواة الضحية مع الجلاد، وعدم محاسبة أيٍّ منهما، وأيُ عدالة تلك التي تساوي من افتعل عشرات المجازر وحارب شعبه موقعاً آلاف القتلى، مع الضحية البريئة والمهجر في شتى بقاع الأرض؟
إبراهيم الخطيب