لا يبدو غريبا أن تتعثر اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف بسبب وفد الحكومة السورية. فمنذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها عن هذا الوفد بوصفه مدعوماً من حكومة دمشق ولا يمثلها، كان واضحا للقاصي والداني أنه مجرد فريق معطل لما سيجري، وخاصة إذا كان الحوار في المدينة السويسرية سيبقى سوريّاً – سوريّاً.
يعرف الجميع منذ البداية أن تقديم إعداد دستور جديد للبلاد على خطوات الانتقال السياسي الأخرى هو مكرمة جديدة من الروس للنظام. لم يأبه أحد لذلك وذهب وفدا المعارضة والمجتمع المدني دون شروط، لأن كل خطوة تنجز في الحل تنتهي لصالح الملايين من اللاجئين في الخارج والملايين من المضطهدين في الداخل.
وفد المعارضة ذهب خاسرا ميدانيا وسياسياً ليضع دستورا جديدا للبلاد، وليس لأي سبب آخر. لا يمتلك أن يطالب برحيل الرئيس بشار الأسد، ولا يمتلك أن يطلق سراح المعتقلين في سجون النظام، ولا يمتلك أيضا أن يطرد أي محتل من سوريا. كل ما بحوزته أقلام وأوراق لتدوين المقترحات ونتائج اجتماعات اللجنة.
المهمة هي باختصار وضع دستور جديد للبلاد. لم تكن وضع تعريف للإرهاب ولا رفع العقوبات عن نظام الأسد، ولا مطالبة تركيا بالخروج من سوريا، ولا الاعتراف بأن الولايات المتحدة تسرق النفط السوري. لم يكن أيّ من ذلك ضروريا للبدء بتشكيل الدستور. وكأنّ من أراد أن يبدأ بهذا أراد أن يفشل اللجنة.
نعم الدستور الجديد سيؤدي إلى انتهاء حكم الأسد، ولولا هذا لما خشيت دمشق من اللجنة الدستورية. يعرف “الرئيس” أن تدرج الحل السياسي من الدستور إلى الانتخابات يعني طرده خارج الرئاسة. لن يقبل السوريون بالأسد مرة أخرى، ومن يعتقد بغير ذلك فهو واهم أو واثق من تزوير الانتخابات الرئاسية.
لا يمتلك نظام دمشق إلا المراوغة والمماطلة ومن ثم تلبية أوامر الروس والإيرانيين. يريد الروس أن تنتقل اللجنة الدستورية إلى أستانة وهناك تتشكل هيئة جديدة لإدارة الحوار السوري على مقاسات أصغر، تماماً كما حدث في جولات أستانة الأولى التي اختصرت فيها المعارضة إلى أطراف وفصائل انتقاها الضامنون الثلاثة.
في أستانة لا يتفوه الأسد ووفده بحرف واحد. هناك تملى عليهم وعلى غيرهم الشروط، ويوقعون على البيانات الختامية التي يتفق عليها الضامنون. إذا كان الأسد يريد استعادة زمام الأمور مرة أخرى، فلا بد أن يخرج المحتلين الخمسة من سوريا، روسيا وأميركا وإيران وتركيا، إضافة إلى إسرائيل إذا كان يعتبرها محتلاً.
إذن السبيل الوحيد لكي يبقى الأسد رئيساً هو أن تبقى الأزمة في البلاد مستمرة للأبد. هذا هو التعريف الوحيد للأبد، الذي يمكن أن يكون فيه الأسد الابن خالداً. أما إذا حدث غير هذا، فإن خلود الابن والأب سينتهي إلى غير رجعة. لن تتحول الجمهورية إلى ملكية ولن يكون هناك الأسد الخامس عشر أو السادس عشر.
في الجولات السابقة من مفاوضات جنيف، لم يكن نظام دمشق مضطراً للفجاجة في مماطلته ورفضه للحوار. كان يكفي أن تترك المعارضة تتكلم وتطالب برحيل الأسد قبل التفاوض على أي شيء آخر، حتى تغلق جميع الأبواب في وجهها، وتعود أدراجها لتواجه الخسارة تلو الأخرى على الأرض وفي الأروقة السياسية.
كان يومها الحوار السوري السوري عقيما لأن المعارضة كانت تظن نفسها أفضل من النظام، والعالم بأكمله يقف إلى جانبها. أما اليوم فالحوار عقيم لأن النظام يظن نفسه أفضل من المعارضة، والعالم بأكمله يعترف بانتصاراته. يظن الأسد أن جميع قادة العالم سيأتون إليه صاغرين وممتنين قبوله بمصافحتهم.
ظل النظام يكذب على نفسه بانتصارات وهمية حتى صدق الكذبة. لم يعد يستطيع مقاربة الأحداث إلا من موقع المنتصر. كان لديه الوهم ذاته قبل عام 2011، وعندما استيقظ من أحلام اليقظة راح يستنجد بالروس ومن قبلهم الإيرانيين، كي يبقى جالساً على كرسي الرئاسة، حتى ولو كان ثمن ذلك تدمير البلاد بأكملها.
صحيح أن موسكو تواصل تفاهماتها ومفاوضاتها مع الأميركيين والأتراك والإيرانيين وغيرهم لإنهاء الحرب في سوريا. لكن يخطئ النظام إذا كان يظن أن الرئيس الروسي فلاديمير يوتين يفعل ذلك ليعيد للأسد كل شيء كما كان قبل 2011، ومن ثم يرحل بهدوء بعد شكر الأسد على استضافة قواته لسنوات في اللاذقية.
كم تبدو هذه النظرة سطحية وضيقة لما جرى ويجري في سوريا. وكم يشير هذا إلى استمرار الحوار العقيم بين الحكومة والمعارضة لسنوات، خاصة إذا لم يأتِ يوم يأمر فيه الروس الأسد بالتوقيع على دستور كتب في موسكو، وصيغت تشريعاته بما يتوافق مع رؤية روسية أميركية أوروبية تركية إيرانية لحل الأزمة.
لا يشعر الأسد بالحرج من التأنيب أو الأوامر الروسية والإيرانية. عاش هذا الأمر مرات عديدة، وهو لا يمارس رئاسته إلا في الأوقات التي تنشغل فيها طهران بقضايا أخرى غير سوريا، أو تكون موسكو في خضم جولة تفاهم جديدة مع الأميركيين أو الأتراك أو الأوروبيين حول الأزمة أو قضية أخرى ذات اهتمام مشترك.
رغم وضوح هذه الحقيقة يأتي إلى جنيف من يضرب بسيف الأسد بوصفه زعيما للكوكب، كما قال له يوماً عضو خرف في مجلس الشعب. لا يخشى مندوب الأسد فشل السوريين في الوصول لدستور جديد، وإنما يخشى من تأنيب أجهزة المخابرات إذا عاد إلى سوريا دون أن يعطل المساعي الأممية لإنجاح اللجنة.
وثيقة الثوابت التي يطرحها اليوم رئيس وفد دمشق أحمد الكزبري، لا تختلف أبداً عن وثيقة رئيس وفد النظام في جولات جنيف الأولى بشار الجعفري. هي مجرد أداة لتعطيل المفاوضات. فالمعارضة لا تستطيع القبول بها، ليس لأنها ترفض محتواها فقط، وإنما لأنها لا تتعلق بعمل اللجنة ولا تؤسس لدستور جديد.
ما يجب على المعارضة فعله قبل الاجتماعات القادمة، إن بقيت اللجنة على قيد الحياة طبعاً، هو الاشتراط على دمشق الاعتراف بوفدها ممثلا رسميا لها وإفراغ جيوب أعضائه من وثائق الثوابت قبل سفرهم إلى جنيف. فالثابت الوحيد في أي حوار سوري يجب أن يكون الإيمان بجدواه، وبهذا فقط لن يكون عقيماً.
المصدر صحيفة العرب