ما الذي يقوله بيان القاهرة الذي توافقت عليه مؤخّراً بعض أطياف المعارضة السياسيّة، وما الذي تقوله وثيقة المبادئ الأساسيّة حول التسوية السياسيّة التي أصدرها الائتلاف وغيرها من الوثائق التي تتمّ مناقشتها؟ ما تقوله هذه وذاك هو أنّ جميع أطياف المعارضة السياسيّة مستعدّة للتفاوض مع السلطة الحالية على أساس “بيان جنيف”.
وثيقة الائتلاف تضعُ غاية العمليّة السياسيّة في “تغيير جذريّ وشامل لرأس النظام ورموزه وأجهزته الأمنيّة”، في حين يتحدّث “بيان القاهرة” عن تسوية تاريخيّة، والمعنيّ ضمنيّاً في هذه التسوية هو “النظام”. أي أنّ الائتلاف ما زال يعّول على أنّه، من خلال استئناف مفاوضات “جنيف 2” من حيث انتهت (وهي لم تنته إلى شيء)، والاستناد إلى غطاء دوليّ من “مجموعة العمل من أجل سوريا” أو من مجلس الأمن، سيتفاوض مع “النظام” بغية إلغائه. أمّا موقّعو بيان القاهرة، وبينهم أعضاء في الائتلاف، فيتركون الباب مفتوحاً لما يُمكن أن ينتجه هذا التفاوض، على أن يحقّق الهدف المرجوّ، أي الانتقال إلى نظامٍ آخر.
من ناحية أخرى، تطرح كلتا الوثيقتين المواضيع الإنسانيّة والميدانيّة، كشروط أو إجراءات ضروريّة لإطلاق عمليّة التفاوض أو لإنجاح العمليّة السياسيّة، بدلاً من أن تكونا جزءاً أساسيّاً منها. وفي الحقيقة، فإن الوثيقتين تركزان على بندٍ من بنود “بيان جنيف”، ذاك الخاص بتقاسم السلطة، وتضع كلّ البنود الأخرى كمقدّمات أو شروط، وليس كأجزاء أصيلة من التفاوض. إذا كان مثل هذا الفهم لـ “جنيف 1” مُمكناً في السابق، فهو لم يعد كذلك منذ أن تحوّلت الأزمة السوريّة إلى حربٍ مفتوحة في صيف 2012.
والتساؤل هنا يتصل بما إذا كانت الأولويّة لوقف الحرب ميدانيّاً، أم هي لاتفاقٍ سياسيّ بين السلطة وأطياف المعارضة السياسيّة، أو جزءٍ منها.
المبعوث الأمميّ ستيفان دي ميستورا كوّن رأيه وإجابته على هذا التساؤل. وهو يعمل على وقف الحرب من خلال مشروعه “لتجميد الصراع في حلب”، وربّما لما بعد حلب. وملامح التوافق الدوليّ والإقليميّ تبدو أيضاً واضحة في حشد الجهود لمواجهة إرهاب “داعش” و “جبهة النصرة” والتنظيمات المتطرّفة الأخرى، وفي تقليصٍ كبيرٍ للدعم بالمال والسلاح لأطراف النزاع كافة. من طرفها، لم تبدِ السلطة السوريّة اهتماماً كبيراً في السير نحو حلّ سياسيّ، حتّى تلميحاً من خلال لقاء موسكو التشاوريّ مع معارضة وصفتها هي ذاتها بـ “الوطنيّة”، محبطةً مناصريها الذي يعانون من الوضع الحالي كما الجميع. وكذلك ترى المعارضة المسلّحة المؤمنة بالمساواة في المواطنة، الواقعة بين كمّاشة السلطة وسندان التنظيمات المتطرّفة، أنّ “سلام الشجعان” بينها وبين الجيش السوريّ هو الأساس. وأغلب المواطنين لا يرون الأولويّة إلاّ في وقف الحرب والقصف والمعاناة.
وحدها المعارضة السياسيّة ما زالت مقتنعة أنّ الأولويّة هي للتفاوض فقط على المستوى السياسيّ، بغية بناء أسس جديدة للدولة بحيث تكون فوق كلّ السلطات، وأنّ الباقي شروط وإجراءات ضروريّة.
لا بدّ لنا من مقاربة جريئة ومختلفة للواقع السوريّ، تأخذ بالاعتبار مدى التدهور والتشرذم الذي وصلت إليه البلاد وأهلها، والعمل والتفاوض على المستويات الثلاثة سويّة، السياسيّ والإنسانيّ والميدانيّ، والتقدّم فيها خطوة خطوة لارتباطها الوثيق في ما بينها. ولن تتقدّم الأمور على أيّ مستوى، إلاّ إذا تقدّمت أيضاً على المستويات الأخرى.
سمير العيطة – السفير