الصف الخامس الابتدائي .. كان حبا عاتيا شديد العنف و القسوة و لتذهب الهرمونات إلى الجحيم فلم يكن لها أي دور في هذه القصة .. سمراء كانت .. نحيلة كانت .. لها عينا غزال يتلصص من وراء شجرة في الدغل . لا يعرف حقًّا إن كانت جميلة أم لا بمقاييس الجمال.. كانت تعجبه جدًّا وكفى، وكانت لها ضحكة خاصة تبرز أسنانها جميعًا في آن واحد فمن حسن الحظ إذن أن كانت أسنانها نضيدة منمقة .
حب من طرف واحد .. لم يعرف قط إن كانت تلميذة الصف الخامس الابتدائي تميل له أم لا ولم يهتم بشيء سوى بكونه يحبها جدًا .. ومن الصعب أن تتخيل منظر الصبي ذي الأعوام العشرة وهو يصغي دامعًا لكلمات (عبد الحليم حافظ) الحراقة وهو يغني
ـ’تاني تاني تاني . راجعين للحيرة تاني .. ونضيع ونجري ورا الأماني’ـ
وكانت تلك الأغنية هي الموضة في ذلك العام .. كانت ساخنة خرجت من الفرن حالًا.
يعرف اسمها الذي لن أذكره طبعًا ويعرف عنوان بيتها عندما كتبته على لوح الكتابة في حصة اللغة العربية . لم ينسهما قط.
انتهت المدرسة الابتدائية وجاءت المدرسة الإعدادية وصار أصدقاء الأمس غرباء . كان يعود للمدرسة الابتدائية من حين لآخر ليمشي في الفناء منبهرًا .. في هذا الفناء الصغير الضيق كانت الكائنات الفضائية تحارب المريخيين الشجعان وكان الهنود الحمر يرقصون وكان بيليه يقود فريق سانتوس ليحرز 28 هدفًا في الفسحة .. كيف اتسع الفناء لكل هذه الأحلام وهو بحجم البانيو في حمام بيتك؟
هناك رآها ذات يوم وكأنها جاءت لتلقي ذات الأسئلة .. كانت واقفة جوار صنبور الماء و كانت تملأ كوبًا من الماء لطفلة لا تستطيع بلوغ الصنبور بسبب الزحام . ضحك لها وضحكت له .. ضحكت تلك الضحكة التي تكشف عن أسنانها كلها في وقت واحد . لم تعد تلبس المريولة الصفراء المصنوعة من (تيل نادية) وإنما تلبس بذلة المدرسة الإعدادية الزرقاء الأنيقة . سألته عن حاله وسألها عن حالها وتظاهر بأنه لا يموت .. تظاهر بأن قدميه ثابتتان .. تظاهر بأنه لم يحلم بها كل يوم منذ ثلاثة أعوام
حيته وانصرفت .. ووقف يراقبها وهي تشق طريقها مسرعة نحو البوابة وسط جحافل الأطفال وكان هذا هو اللقاء الأخير … فعلًا
فقط مر مرات عديدة أمام بيتها وراح ينظر للمدخل الرطب الذي قد تنعس فيه قطة مشمشية وقال لنفسه
ـ’يوما ما سوف أصير رجلًا ناضجًا وسوف اجتاز هذا المدخل..’ـ
لم يجتز المدخل قط لكن الفكرة جعلت سنوات الحرمان محتملة
من الغريب أنه لم يبذل أي جهد للبحث عنها . كانت أقدس من أن يدنسها بأسئلة أو يقف عند قارعة الطريق ينتظرها . ومن المؤلم أنها كانت من طراز فتيات النسيم اللاتي لا تسمع عنهن شيئًا أبدًا .. ليست متفوقة لترى صورتها في الصحف وليست طائشة ليتكلم عنها رفاقك .. كانت زفيرًا تكاثف على زجاج ذكرياتك ثم بدأ يتلاشي ببطء.
أحيانًا تُبعث في بعض القصائد أو يقتحم جزء منها قصة له .. هناك بعض الرواسب الفرويدية التي تركتها له وإلا فلماذا ظل طويلًا يفلت قلبه ضربة كلما رأى درية شرف الدين أو سحر رامي أو آلي مكجرو ؟
هل تعرف الشيء الذي يجمع بين هاته الفتيات .. إنه هي.
أين هي الآن؟!
كثيرًا ما يقف يرمق الليل في الخارج ويتساءل هذا السؤال ويتمنى أن يجد إجابة عنه ..
أين هي الآن ؟!
بقلم الدكتور أحمد خالد توفيق