الحصار يضيق يوماً بعد يوم وحلب تودع أبنائها فكلهم راحلون إما موتاً أو تهجيراً.
_يجب أن تأخذي الأولاد وترحلي مع عائلة أخي والجيران لمناطق النظام.
_ماذا عنك وعبد الله هل سترحلان معنا.
لا سنبقى هنا سيجبرنا النظام على القتال معه إن رحلنا سنذهب لحي صلاح هناك يتجمع الأحرار ليبقى آخر حي لهم.
_لما لا نذهب معكم.
_لا إن هجم النظام نحن نقاتله حتى الموت, أما أنتم سترحلون الآن حفاظاً على العرض والأطفال.
ثم صوت بكاء أمي …..
هذا ما سمعته عندما كنت أتنصت على حديث أمي وأبي في أحد ليالي الحصار.
ثم بدأت أمي تعد حقائب الرحيل.
بدأت أفكر أيعقل بعد كل هذا الصبر والعناء يا الله ست سنوات قصف وستة أشهر حصار ثم تهجير أيعقل ..!؟
ماذا عن التضحيات ماذا عن الصمود ماذا الأرواح التي أزهقت والدماء التي أريقت, ماذا عن أحلامي يا الله ماذا عن…..
قاطعني صوت صراخ أحدهم يستجير خرجنا لشرفة المنزل لنرى ما الأمر وإذ برجل يحترق ويستغيث
يا الله يا الله إنه يحترق ساعدوه أبي أرجوك تحرك عبد الله ساعده أرجوك …. يا الله يا الله
نظر الي أبي وعيناه مليئتان بالدموع ثم وضع يده على فمي ليسكتني هسسس…. لا نستطيع مساعدته إنها قنابل فوسفورية سينفجر إن سكبنا عليه الماء.
ثم هوت الطائرة لتنفذ غارة فدخلنا مسرعين.
كان الطيران الحربي يحلق بسماء حلب أربعٌ وعشرون ساعة تكاد لا تمر دقيقة إلا وينفذ فيها غارة ترتج الأرض وتفتح الأبواب, وتكاد أن تصم الآذان وتتعالى أصوات التكبيرات.
حتى اعتدنا على هذا الحال.
.الساعة الثانية بعد منتصف الليل حملنا حقائبنا وحملنا كثير من الذكريات والآلام وتركنا الصمود والأحلام والآمال
اقتربت من أبي لأودعه كانت عيناه حمراوان من حبس الدموع, فنظر إلي وهو يضحك ليطمئنني لا تخافي سنكون جميعاً في أمان الله, ضمني وبكيت على صده وظننتها آخر مرة.
مسح دموعي وقال لي لا تبكي كوني قوية كما اعتدت أن أراك أستودعكم الله..
ثم مضينا مع الناس وأبي خلفنا مازال واقفاً في منتصف الشارع ينظر إلينا.
كنت أمشي عدة خطوات وألتفت لأودع أبي بنظرة مرة أخرى حتى لم أعد أراه..
أمي يا أمي إلى أين نحن ذاهبون؟, أيعقل أن نذهب لعند العدو!!.
لم تجيبني أمي..
أمي متى سنلتقي بأبي وأخي مرة أخرى؟
لم تجيب …
ثم نظرت إلي وقالت: سدرة ….. إن أصبت تتركيني وتأخذي بيد أخاك مصطفى وتهربي.
كيف …إلى أين يا أمي..؟ لا أستطيع لا تقولي هذا أرجوك.. فأجابت ستفعلين.. وصمت
وتذكرت قول أبي سنكون جميعا في أمان الله.
بدأت أنظر حولي يا الله ما الذي جرى!
.لقد احترقت حلب بما فيها دمار شمل كل ما أحبه بمدينتي كنت أنظر للخلف كلما أقطع مسافة أمتار قليلة كي التقطع صور أخيرة وأخبئها بذاكرتي وبقلبي.
نظرت إلى السماء فرأيت القمر كان بدراً حزين كئيباً وكأنه ينظر إلينا بشفقة, كان ينير لنا طريقنا ولا نور غيره,
أيها القمر الجميل مالي أراك حزيناً!, أيعقل أن تكون أحن من قلوب البشر! …
أيها القمر كن شاهد على مأساتنا…
كانت المدينة خالية من أي مخلوق حي.
يخيل إلي ازدحام المارة ولعب الأطفال كأن أرواحهم لم تغادر المكان.
كانت الذكريات تلاحقني فأرى بكل زاوية ألف ذكرى جميلة أو حزينة.
.لا صوت سوى صوت القصف وتحليق الطائرات فوقنا.
وصوت خطوات الأقدام والأنفاس المتسارعة من شدة البرد والخوف.
سقط صاروخ بالقرب منا فصرخت الله أكبر, فسارع الجميع ليسكتوني أخفضي صوتك أخفضي صوتك…
لا تكبير بعد الآن لقد قتلوا الاطمئنان بداخلي, كانت أصوات التكبيرات تمنحني الأمان والاطمئنان فمهما كان القصف شديد لا أشعر بالخوف عندما أكبر, أما الآن فلا تكبير فسنكون بقبضة العدو بعد قليل.
تابعنا السير كنا كلما ندخل في حارة نجدها مغلقة بسبب الردم فضعنا في مدينتنا وكأننا في متاهة
نمشي نمشي ثم يقال عودوا أدراجكم الطريق مسدود.
تحولت مدينتي الحبيبة لدمار شامل, تحولت لمدينة أموات وأشباح لمدينة أرواح لقد تركنا أرواحنا هناك لتبقى مع أرواح أحبابنا الشهداء ومضينا أجساداً بلا أرواح ..
اقتربنا من العدو ها هم بعد عدة أمتار يصرخ أحد الجنود قف ….. وقفنا لنصرخ مدني مدني ..ثم صرخ سر إلى الأمام
وبدأوا يطلقون النار نحونا بشكل عشوائي ونحن نركض نحوهم كم خفت أن تصاب أمي, فلا أستطيع تنفيذ وصيتها, وصلنا لعند الجنود ولم يصاب أحد منا فاستقبلونا بـ (الحمد لله على السلامة ) كانوا يلعبون دور الأبطال المنقذين للأبرياء من الإرهاب وهم الإرهاب بذاته.. فتشوا حقائبنا ثم تابعنا السير والجنود حولنا لقد صرنا تحت سيطرتهم..
صرخ أحدهم توقفوا حتى يأتي العقيد, توقفنا وأتى العقيد, كان ضخم طويل القامة عريض المنكبين وسمين قبيح الوجه ذا رائحة نتنة وكأنه غول.
لقد ترك الجميع واتجه نحو أمي لما يظهر عليها من ملامح الإرهاق والخوف الشديد,
سألها أين زوجك؟ فلم تعرف أمي ماذا تجيب فقد كانت مريضة ومنهكة من التعب والخوف والقهر.
أجابت مازال بالداخل تقصد في الحصار فصرخ بوجهها أهو مسلح..؟ فأجابت لا لا وتلعثمت وبدأت ترتجف وكادت أن تسقط فازداد الحقير ترهيباً لنا وسألها أهؤلاء أطفالك؟ فأجابت نعم ..وأمر العساكر بقتلنا بعد ساعتين إن لم يأتي أبي,
وصار يحلف بحق الإمام علي سيفعل كذا وكذا.
كان الناس حولنا بحالة ذهول ينظرون إلينا بصمت لا أحد يجرؤ على التدخل.
ثم رفع المجرم السلاح نحونا أمي تضم أخي الصغير وتصرخ لا أرجوك ليس لنا علاقة.. زوجة أخي تضم رضيعها وتبكي عليه.
لم أصرخ ولم أبكي كما أوصاني أبي كنت صامتة أنتظر غيثاً من الله, رفعت رأسي إلى السماء هل سأموت هل سأنال الشهادة يا الله جميلة هي الشهادة.
وأمي يا الله !!! ..ثم صرخت يا الله يا الله…
أمن يجيب المضطر إذا دعاه لقد أجابني وأخرج لي من قلب الأعداء منقذ.
جندي أتى إلينا مسرعاً على أصوات الصراخ ليجبر العقيد على التوقف، كان يتكلم مع العقيد بكلمات بعضها عربية وبعضها أجنبية لم أفهمها.
سبحانك يا الله من قلب الأعداء منقذ !!!
ثم تركونا نكمل المسير سيراً على الأقدام لمسافات طويلة في البراري والجنود ترافقنا حتى وصلنا لمنطقة تدعى عزيزة هناك أوقفونا لمدة ساعتين حتى تجمدت عروقنا بردا.
الأطفال تبكي وتصرخ من البرد ولا حيلة للأمهات بتدفئة أطفالهن.
بعد ساعتين أحضروا لنا سيارات ليأخذونا بها للسجن الكبير.
الذي يدعى مركز الإيواء في منطقة تدعى جبرين.
وصلنا لتلك المنطقة الساعة السابعة صباحاً كان أسوأ وأقبح صباح تراه عيني صباح شفقة العدو علينا, ما أقبحه من شعور.
كم كان منظراً مخزي ومؤسف طابور مؤلف من مئات ينتظرون إعطائهم رغيف خبز لسد جوع أطفالهم.
يا الله أنُذل بعد صمود ست سنوات أنهان بعد كل تلك التضحيات اللهم عدلك اللهم عدلك..
كانت هذه المنطقة أشبه بسجن كبير, لا أحد يستطيع الخروج منه إلا أن يأتي أحد أقرباؤه من سكان مناطق النظام ليكفله ويأخذه.
لم نبقى في تلك المنطقة إلا بضع ساعات حتى أتى خالي ليأخذنا لبيته, لنعيش معه حتى فرج الله, كنت أشعر باليتم بدون أبي ..
مضت أسبوع بدون خبر عن أبي وأخي.
نسمع أصوات القصف على المناطق المحاصرة وقلوبنا تتفطر ألماً وخوفاً عليهم حتى خبر سيطرة النظام على كامل مناطق حلب ولم نعرف خبر عنهم بعد.
أمي تنهار وتفقد الوعي.
يا الله يا الله ماذا حل بهم يا الله أخرجهم كما أخرجتنا.
نظرت لحال أمي أكاد أفقدها ولا خبر عن أبي.
هرعت إلى الصلاة والدعاء صليت طويلاً حتى اطمئن قلبي.
مضت تلك الليلة العصيبة وطلع الصبح… اتصال من أبي يا الله الحمد لله فتحت الخط وإذ بصوت أبي
أبي أين أنتم كيف حالكم ..؟
الحمد لله خرجنا في الباصات الخضر مع الأحرار ونحن الآن في إدلب.
حمداً لله حمداً لله كان صوت أبي كثلج على صدري الملتهب.
مضى يومان ثم رحلنا لمناطق الأحرار والتقيت بأبي وأخي مرة أخرى في منطقة تدعى الدانا بريف إدلب, ثم رحلنا لريف حلب الغربي لنجد بيت يأوينا في قرية تدعى أورم الكبرى, كانت تلك القرية تقصف وأهلها نازحون ولهذا السبب وجدنا فيها بيت مناسب.
كنت سعيدة لسلامة جميع أفراد أسرتي وحزينة لفراق روحي التي تركتها في حلب, وأحلامي التي تحطمت على أسوارها.
لكنني استعدت قواي وبنيت أحلامي على أساس العودة لمدينتي وتضميد جراحها.
فسجلت في المدرسة كنت في الصف الثالث المتوسط ولتقدمي سنة بالدراسة على عمري وجدت صعوبة بقبولي في مدرسة جديدة وقد بقي شهر واحد للامتحان.
كل شيء ينبئني بالفشل لكن ثقتي بالله الذي أعاد لي الحياة بدعاء منحتني قوة عجيبة لقد نجحت وحصلت على مجموع جيد جدا في غضون شهر واحد, ومن يومها لم أسأل الله شيئاً إلا ويعطيني إياه أو يبدلني خيراً منه.
سبحان الكريم
لم تنتهي المأساة فالحرب لم تنتهي بعد.
مازلنا نتهجر من مكان لمكان ونعاني ونصبر ونضحي لكن الصمود هذه المرة أن نبقى في أرض الشام, وإن اختلفت المناطق.
بقلم سدرة المنتهى فردوسي/ المركز الصحفي السوري