من الواضح أن الإبقاء على «عقدة إدلب» معلقة دون علاج؛ شيء متعمد في جانب منه، أما باقي الجوانب فتعكس فوضى الأوضاع العربية القُطْرية والعامة، وذلك غير ما هو معروف من الثقة المفقودة بين الأطراف ذات العلاقة، وتناقض طموحاتها، وتنوع أطماعها وتداخلها، وذلك ممكن الرصد من الاشتباكات البينية والتحرشات المتبادلة، وإن بدت محسوبة ومنضبطة نسبيا، بسبب خشية اللاعبين الكبار من المواجهة المباشرة، وتَحَسُّبهم للخسائر الفادحة المتوقعة منها، والقلق من التورط وتوريط العالم في صراع ساخن يمكن ضبطه في البداية، ويكاد يكون من المستحيل التحكم في نتائجه ونهايته أو وقفه.
والعقدة الأكبر في أمريكا المتنمرة طوال الوقت والمترددة دائما، وعدم اكتراثها بما يصيب العالم، ودور إدارتها السلبي عليها وعلى العالم، الذي يعترف بها كامبراطورية؛ تستحوذ على أكثر وأكبر الموارد الطبيعية والمنتجات الصناعية، وتتحكم في ميادين التقانة والعلوم التطبيقية والذرة والفضاء والسينما، وما زالت منافستها في هذه الميادين صعبة ومكلفة، وقد أصابها الغرور وجنون العظمة في التعامل ومع المشاكل والقضايا الإقليمية والعالمية المستفحلة؛ تتصرف منفردة وتتجاوز حلف شمال الأطلسي «الناتو»، واستغلالها نظام اتخاذ قرارات هذا الحلف بالإجماع، لتعزيز وزنها واستعراض قوتها مع أوروبا؛ أقرب حلفائها، وذلك بعيدا عن الأعراف الإنسانية والقوانين الدولية، فتقرر ما تراه في صالحها، بغض النظر عن أي مصالح أخرى، وحتى دون الرجوع إلى حلف «الناتو» أو أي مرجعية أخرى شبيهة، وبدأت الأخبار وأجهزة الإعلام تشير إلى مخططاتها في اقتطاع إدلب من سوريا.
وأكد الكاتب الروسي رسلان ماميدوف في صحيفة «أوراسيا إكسبرت» على دور واشنطن وتل أبيب النشط في التصعيد بإدلب، وعلاقته بالنفط السوري، وبكسر العلاقة بين دمشق وطهران، واعتبار «إدلب» من أهم مواقع المواجهة ضد إيران. وتعطيل إمدادات النفط عنصر رئيسي في المساعدات الإيرانية السورية، ونفس الصعوبات تواجه مساعدات طهران العسكرية لسوريا، وفاقم منها انخفاض الموارد الإيرانية، وانعكاس الحصار على تمويل السياسة الخارجية الإيرانية.
وعلى صعيد آخر استهدفت مفاوضات الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» في موسكو التوصل إلى عقد «هدنة مؤقتة»، على أمل تمكينه من إعادة تجميع قوات المعارضة المسلحة، وتحريك مزيد من القوات التركية إلى داخل الأراضي السورية، وذلك بعد خبرة أسابيع متواصلة من القتال الضاري، وما ترتب عليه من استهلاك كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة باهظة الثمن والتكلفة، والحاجة لأموال ووقت إضافي لتعويضها، بجانب ما بدا من قدرة جيش سوريا على استعادة مساحات من الأراضي في إدلب وما حولها وثباته، على الرغم من خسائر الأرواح والمعدات.
ويسعى الإعلام الغربي إلى نشر فكرة عزم روسيا على الاستيلاء على أجزاء من أراضي أوروبا الشرقية، بغرض زعزعة الاستقرار والحيلولة دون تمكين الآلة العسكرية لحلف «الناتو» وتغذية ظاهرة «الروسوفوبيا» (الرُّهاب الروسي) في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وتوابعهما، ودفع قوات «الناتو» وأسلحته إلى حدود روسيا الغربية، دون دليل على وجود تحركات عسكرية أو نوايا حرب من جانب موسكو.
المصائب التي حلت بـ«القارة العربية»؛ جراء تدخل «الناتو» في لبنان، نهاية القرن العشرين، وما استجد بعدها من تدخلات؛ في فلسطين والعراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان، مع بداية القرن الواحد والعشرين، وتجاوز عدد ضحاياها مليوني نسمة قضوا نحبهم
وهذا يمثل قمة جبل الجليد العائم، وما يمكن رؤيته منه هو سياسات الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف «الناتو» في أقاليم ومناطق شتى من العالم. فأينما تحل قواتهم؛ خاصة مشاة البحرية الأمريكية، تراق الدماء بغزارة، وغالبيتها العظمى دماء مواطنين أبرياء، لا ناقة لهم ولا جمل في هذه السياسات، والأمثلة على ذلك لا تحصى، ولا يتسع المجال لحصرها، ونكتفي بذكر المصائب التي حلت بـ«القارة العربية»؛ جراء تدخل «الناتو» في لبنان، نهاية القرن العشرين، وما استجد بعدها من تدخلات؛ في فلسطين والعراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان، مع بداية القرن الواحد والعشرين، وتجاوز عدد ضحاياها مليوني نسمة قضوا نحبهم؛ أغلبهم من الأطفال والنساء والمشردين وكبار السن.
وهذه ظروف استعار فيها الرئيس التركي أردوغان طريقة الرئيس الأمريكي ترامب في «التصرف فيما لا يملك»، وكما فعل ترامب مع الأراضي الفلسطينية، ومنحها للدولة الصهيونية بالمجان؛ صرح أردوغان للصحافيين من على متن طائرته التي أقلته عائدا من «بروكسل» عاصمة الاتحاد الأوروبي إلى أنقرة، صرح بأنه طلب من الرئيس بوتين مشاركته في إدارة حقول النفط السوري (المسروق) بدير الزور؛ بدلا من «جبهة النصرة»، وأكد على ذلك بقوله: «عرضت على السيد بوتين أنه إذا قدم الدعم الاقتصادي فبإمكاننا إقامة البنية اللازمة»، وادعى أنه «بالنفط المستخرج هنا»، يمكنهما مساعدة سوريا المدمرة في الوقوف على قدميها»(!!)، وأضاف أنه بصدد تقديم عرض مماثل للرئيس الأمريكي دونالد ترامب(!!) وهذه مؤشرات على نية مبيتة لاقتطاع «إدلب» وفصلها عن الجغرافيا السورية(!!).
وقد يفتح ذلك قضية الأراضي والأجزاء المقتطعة من سوريا، فـ«لواء الإسكندرون» السليب، الذي حمل اليوم هوية تركية باسم ولاية «هاتاي». تبلغ مساحته نحو 4800 كيلومترا مربعا، وتم منحه من فرنسا لكسب الود التركي أثناء الحرب العالمية الثانية؛ وبدأت إجراءات الضم باتفاق فرنسي تركي عام 1937، وبعده بعام دخلت قوات تركية قوامها 2500 مقاتل؛ بدعوى حفظ الأمن وحماية الأقلية التركية المقيمة في «الإسكندرون»، وفي 23 يونيو 1939 قرر الفرنسيون والأتراك ضم اللواء إلى تركيا، مقابل عدم التدخل ضد فرنسا في حال امتداد الحرب العالمية الثانية إلى شرق المتوسط، وما زالت هناك خرائط سورية وعربية تضع «لواء الإسكندرون» ضمن أراضي سوريا، إضافة إلى خرائط أخرى صادرة عن وسائل إعلام وأحزاب سياسية ذات توجه عروبي وقومي سوري، وضَمَّنته قنوات سورية في نشرات الأحوال الجوية؛ بعد توتر العلاقات بين حكومتي دمشق وأنقرة.
وتكرر الموقف مع «أنطاكية»؛ المدينة التاريخية التي تبعد نحو 30 كم من شاطئ البحر المتوسط، وتعتبر إحدى أهم المدن في تاريخ الشام، وكانت العاصمة إلى ما قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، وما زالت «أنطاكية» عاصمة للكنائس المسيحية الشرقية. واعْتُبرت «مهد المسيحية»؛ لدورها المحوري الذي لعبته في ظهور الهلنستية اليهودية والمسيحية المبكرة، وحمل النصارى إسم مسيحيين لأول مرة من مدينة أنطاكية نحو سنة 42 أو 43 للميلاد.
وكانت أنطاكية في العصر الهلنستي عاصمة الامبراطورية السلوقية، وزادت أهميتها في العصر الروماني، وصارت ثالث أكبر مدن العالم بعد روما والإسكندرية، ونقل العرب عاصمتهم من «أنطاكية» إلى واحة دمشق لأسباب لوجستية، وتعرضت إبان التاريخ الإسلامي للغزو عدة مرات؛ من الروم والصليبيين، وانتقلت تبعيتها لحلب بعد انتهاء الحروب الصليبية، ووقعت تحت نفوذ فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى قبل ضمها لتركيا.
وأما هضبة الجولان، أو محافظة القنيطرة إداريا، تعتبر من وجهة نظر القانون الدولي أرضا محتلة، وتبلغ مساحتها 1860 كيلو متراً، وكانت أكثر ارتباطا بفلسطين في العصر العثماني، وجزءاً منها بعد اتفاق سايكس- بيكو، ووقعت تحت الانتداب الفرنسي من عام 1923، وبقيت ضمن الحدود السورية حتى عام 1967 حين احتلت القوات الصهيونية 1280 كيلومتراً مربعاً منها؛ تضم مدينة القنيطرة.
وتراجعت تل أبيب إثر توقيع اتفاقية فض الاشتباك بين قواتها والقوات السورية عام 1974؛ تراجعت لنحو 60 كيلومتراً إلى الغرب، وهناك قوات فصل أممية (UNDOF) بين القوتين، وفي عام 1981 قرر «الكنيست» فرض القانون والإدارة الصهيونية على الجولان، وفي عام 2011 سَن «الكنيست» قانونا يشترط إجراء استفتاء شعبي قبل أي انسحاب من الجولان والقدس الشرقية.
والخلاصة هو ما يبدو من جهد صهيو أمريكي لجر تركيا إلى حرب مع روسيا، واصطيادها بجماعات مسلحة تعيدها تركيا تباعا، وتدفعها إلى الداخل السوري فهل تنجر تركيا، وتقع في الفخ!.
نقلا عن القدس العربي