ما يزال العالم منشغلاً تماماً بالتكشفات التي أماطت اللثام عنها الأوراق المسربة من المؤسسة القانونية البنمية “موساك فونسيكا”. لكن موسكو استقبلت هذه التغطية بما يمكن وصفه بأنه لامبالاة هادئة.
لإدراكهم أن الرئيس فلاديمير بوتين سوف يُربط بمخططات الشركات الخارجية “أُف شور”، بدأ الناس المحيطون به مناوراتهم في العلاقات العامة بشكل استباقي. فقبل أسبوع من نشر الأوراق، عمد الكرملين إلى تحذير الناس مسبقاً من احتمال “هجوم معلوماتي يهدف إلى زعزعة استقرار روسيا في ضوء نجاحها في سورية“.
وفي الأثناء، كان رد فعل الأفراد الروس الذين ذكروا في أوراق بنما -الذين ظهرت أسماؤهم حتى الآن على الأقل- هادئاً أيضاً. ونفى البعض المعرفة بملكية أي حسابات خارج البلد “أف شور”. وبدراسة الطريقة التي تعمل من خلالها وتؤسس هياكل الشركات الخارجية، لا يكون ذلك افتراضاً غير منطقي بالمطلق.
ومن جهتهم، شكك آخرون في مصداقية الوثائق (وهو أمر سهل نظراً لعدم عرض كل الوثائق الأصلية). وهناك البعض ممن أقروا بوجود علاقة سابقة مع شركة تجارية في الخارج، لكن قالوا إن الشركات المعنية بيعت أو أغلقت. ومرة أخرى، ليس هذا الادعاء غريباً في ضوء أن العديد من الشركات في الخارج تكون صدَفة فارغة أو تصبح مستحاثات قديمة بعد أن لا يعود للشركة نفع لأصحابها ولا يريدون تحمل نفقة إغلاقها.
غزل الكرملين
من غير المرجح أن يكون الجمهور الروسي بشكل خاص قد تأثر بسبب هذه التكشفات. والمعروف أن الفساد وبائي في البلد، والناس يعون تماماً أن النخب الحاكمة تغوص في الرشوة والمحسوبية. ومن المتوقع أن تولد هذه المعرفة تغييراً ما، مع أنه من الجدير ملاحظة أن “النخب الحاكمة” منفصلة بشكل حازم في عقول الجمهور عن شخصية الرئيس الذي يُنظر إليه غالباً على أنه حاكم وحام.
كما أن الأوراق لا تعتبر كاشفة بشكل خاص بالنسبة للبيئة الاقتصادية والتجارية في روسيا. ولطالما عرف أن الاقتصاد الروسي يخضع لسيطرة الهياكل في الخارج. وتؤكد الإحصائيات الرسمية الروسية أنه منذ وقت مبكر من عقد التسعينيات، كان المستثمرون الأجانب القياديون في داخل روسيا يأتون من قبرص ولوكسمبرغ وهولندا وأيرلندا وبرمودا -وهي بلدان تفرض أدنى حد من الضرائب أو لا تفرض ضرائب، ولديها قوانين تنظيمية مرنة لكيانات ما وراء البحار.
وحتى لو دهش بعض الناس من هذا التحقيق الاستقصائي، فإنه يمكن وصفه بأنه ضرب من الهجوم المعادي لروسيا والذي يشنه الغرب. ولا يجب إغفال حقيقة أن الصحافة الغربية تبدو وكأنها استفردت ببوتين وخصته في تغطيتها لهذه القصة. فقد برز اسمه في العناوين الأولى، حتى على الرغم من تورط قادة العديد من الدول والشخصيات المشهورة وأساطين الأعمال التجارية في المسألة.
المفاجأة الوحيدة في السياق الروسي هي صلة بنما. فالبلد لا يظهر في العادة في قائمة روسيا لوجهات “الأف شور” الرسمية لهروب رأس المال (وطبقاً لذلك أصول الاستثمار الأجنبي المباشر). لكن، وحتى مع ذلك، فإن الرابط مع شركة مبهمة في بنما القصية يجعل من هذ التكشفات أكثر بعداً بعض الشيء عن الاهتمامات اليومية للجمهور الروسي.
يعد مصطلح “أف شور” غامضاً بالنسبة للشخص العادي، ومن الصعب تفكيك اللغة المعقدة للمعاملات ووثائق القيد وخطوط الائتمان. وفي داخل روسيا، غالباً ما يرتدي الفساد وجهاً أكثر بشاعة. وبأخذ حقيقة أن الجمهور ما يزال يتسامح -بل وحتى يتساهل- مع نموه واستشرائه، فمن غير المرجح بأن يصبح الناس مهتمين عن كثب بتحقيق دولي عن شركة قانون في بنما. صحيح أن الملفات ستوفر سجلاً مهماً، لكنها لن تقدح على الأرجح زناد أي رد فعل سياسي في المستقبل القريب.
حقيقة راسخة
من المعقول افتراض أن المخاطر (وتبعاً لدلك الكلفة) التي تنتظر الشركاء الدوليين نظير الدخول في نشاطات تجارية مع نظراء لهم من الروس سوف ترتفع. لكن حجم هذه المخاطر الجديدة سيعتمد على حدة الإجراءات التي ستفرضها القوى الرئيسية في اللعالم في قتالها ضد الملاذات الضريبية.
وكانت عدة دول قد أعلنت أصلاً عن نيتها إجراء تحقيقات مع كيانات ذكرت في أوراق بنما. لكن الأثر الفعلي لتأكيد ما نعرفه منذ أمد طويل -من أن ملاذات الضرائب وتمويل الشركات الخارجية يوفران مرسى حيوياً للاقتصاد العالمي. وليس هذا تكشفاً جديداً بأي معنى، لكن مدى ومقياس الدور المحدد لبنما -وهي ملاذ ضريبي عالي السرية- تأكد راهناً بفضل الحجم الضخم من البيانات التي أفرج عنها.
وقد تعلمنا أيضاً أن كلمة “أوليغاركي” (حكم القلة) لا يجب أن تقترن حصراً بروسيا. ذلك أن تركز السلطة السياسية بين أيدي قلة ثرية يبدو نموذجاً عالمياً أكثر من السابق.
الغد