عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، وجد مهتمون عرب كثيرون أن لكل من المترشحين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب مزايا وعيوبا، وأن أحدهما لا يفضُل الآخر بصورة مطلقة، مع تحبيذٍ إجماليٍّ ونسبيٍّ للسيدة كلينتون التي كانت كل التقديرات والاستطلاعات ترجّح فوزها بمنصب الرئاسة. وفي صبيحة الأربعاء، 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مع الإعلان عن فوز ترامب، كان لسان الحال في دول عربية عديدة: وداعاً إذن للديمقراطيين.. وداعاً أوباما وكلينتون، وأهلاً بعودة الجمهوريين من فريق بوش الأب وبوش الابن الى البيت الأبيض. لقد تحلّى الجميع تقريباً وفوراً بالواقعية، فالرئيس الجديد انتخبه شعبه، كما انتخب غيره من قبله، ولا مناص من احترام هذا الرئيس والتعامل معه. لم يقتصر هذا الموقف الواقعي على الدول العربية، بل شمل أغلبية دول العالم، وإن كانت دول أوروبية غربية، مثل ألمانيا وفرنسا، لم تكتم توجّسها من النزعة الشعبوية للرئيس المنتخب ترامب، وجعلت من القيم الديمقراطية فيصلاً ومِحكاً للتعامل مع إدارة أميركية جديدة وتقييمها.
ومع الانفعالات العربية المؤقتة التي صاحبت حملة الانتخابات، ثم رافقت عمليات التصويت، وصولاً إلى إعلان الفائز، فإن المسافة بين التقديرات الرسمية والتقديرات الشعبية أخذت تتقلص بخصوص ما هو مُنتظر عربياً من الرئيس الأميركي. لم يعد هناك، في محصلة الموقف العربي الرسمي، أي تعويلٍ كاملٍ على أي إدارةٍ جديدة في واشنطن. كان الموقف الأميركي الصنمي والأصم من القضية الفلسطينية هو مفتاح الوعي الجديد. في السنوات العشر الماضية، أضيف الموقف الأميركي من التمدّد الإيراني، كأحد العوامل التي تفتح فجوةً بين المصالح العربية وتقدير واشنطن للمصالح الأميركية. وخلال ذلك، برز العامل الثقافي والفروق الحضارية والموقف من المسلمين وظاهرة الإسلاموفوبيا عوامل إضافية للتباعد. لم يعد هناك في الوعي العام من تطابقٍ بين الأهداف العربية وأهداف واشنطن، كما كان عليه الحال في سنوات الحرب الباردة، وحتى أواخر القرن الماضي. ولهذا، لا يصادف المسؤول العربي ( الخليجي مثلاً..) صعوبةً تذكر في التحلي بالواقعية، بالتعامل مع أيّ رئيسٍ منتخب، أو أية رئيسة كان يُمكن أن تنتخب. فما دامت الفروق والتباينات العربية والأميركية قائمةً في جميع الحالات (ومعها نقاط الاتقاء والمصالح المشتركة)، فإن ذلك يُظهر أن الفروق بين السياسيين الأميركيين ليست كبيرة، على الرغم من التطاحن فيما بينهم، ما يُملي المضيّ في سياسة الاعتماد على الذات، وهذا هو أفضل تحوّلٍ أصاب الوعي السياسي العربي الرسمي في العقد الأخير. وقد تم التوجه إليه بالتدريج وببطء، حتى أصبح خياراً على درجةٍ من الرسوخ. وقد تجلى في الموقف من الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث لم يكن هناك مرشح رئاسي يحظى بثقةٍ عربيةٍ كبيرة. وسريعاً ما تم الانتقال إلى موقفٍ عقلانيٍّ، بالاستعداد التام للتعامل مع الرئيس المنتخب.
وقد استفاد الموقف العربي من النموذج التركي في التعامل مع واشنطن، باستلهام هذا النموذج
وإنْ جزئياً، فمع بدايات القرن الجديد، وعشية حرب الخليج الثانية، ووصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، فقد أخذت الجمهورية التركية مساراً سياسياً على درجةٍ من الاستقلالية عن واشنطن، ولم تشارك في حرب الخليج الثانية، وإنْ فتحت قواعدها أمام انطلاق عمليات حلف الأطلسي القتالية الجوية. وابتعدت أنقرة عن تل أبيب، وأخذت تقترب أكثر فأكثر من الجانب الفلسطيني. وكان الموقف من موجة الربيع العربي ميداناً للالتقاء مع واشنطن والافتراق عنها، وخصوصاً بما يتعلق بالحراك السوري.
ولا يقتصر الأمر على تركيا، فحتى الحليف الصهيوني لأميركا الذي يتمتع بما لا تتمتع به أية دولةٍ من مزايا تفضيلية في واشنطن. .. هذا الحليف يشتقّ سياسةً خاصةً بما يتعلق بمصالحه وأطماعه التوسّعية، ويعمل على حمل الإدارات الأميركية على تبني هذه السياسة، وليس العكس، فواشنطن، في المجمل، وعلى الرغم من الفروق في المواقف بين المؤسسات، تعتنق سياسة شرق أوسطية إسرائيلية بما يتعلق بالأراضي المحتلة ومستقبل الصراع والتسوية، وليس العكس، فتل أبيب لا تعتنق سياسةً أميركيةً شرق أوسطية، إلا في الخطوط العريضة والتوجهات العامة. وهو ما استحقّ عربياً استخلاص الدروس منه، فالاعتماد الكامل على الحليف الدولي لا يستقيم مع موجبات السيادة واستقلال القرار السياسي، ولا مع واجب بناء قدراتٍ دفاعيةٍ ذاتية، والتباينات السياسية مع ” الحليف” في ظل الاعتمادية قد تؤدي إلى نتائج مُهلكة، فلو نظر الجانب السعودي والخليجي النظرة الأميركية إياها إلى ما يحدث في اليمن، قبل زهاء ثلاثين شهراً، لكان الحوثيون قد أتموا سيطرتهم على المياه الإقليمية اليمنية في البحر الأحمر، ويهدّدون جدّة ومناطق سعودية أخرى. ولو استأذن السعوديون واشنطن في شنّ الحرب الوقائية (عاصفة الحزم)، لانتظروا طويلاً تأييداً أميركياً لخطوتهم هذه، ولتحوّلت عدن وباقي اليمن إلى ترسانةٍ للأسلحة والمنشآت الإيرانية، ومنصة تهديد مباشر للسعودية ولدول خليجية أخرى، علاوة على التفاف الانقلابيين على إرادة الشعب اليمني، وسعيهم المحموم إلى بسط سلطتهم على الضدّ من أية شرعية بالحديد والنار، والاستقواء المكشوف بدولةٍ أجنبيةٍ ذات أطماع معلنة.
وليس بعيداً عن السعودية، فإن البحرين كانت مؤهلةً لاختراق إيراني. ولا يقترن الموقف الأميركي المؤيد لحقوق كاملة في المشاركة السياسية الداخلية في هذا البلد بتكريس حق البحرين بمنع أية تدخلات أجنبية في شؤونها الداخلية، أو بمخاطبة طهران بصورة حازمة لوقف تدخلاتها في المنامة.
لقد تم قطع شوط كبير من فك “ارتباط سيامي” عربي أميركي، وخصوصاً ذلك الخليجي
الأميركي، ويلحظ المرء كيف أن التحولات الداخلية في أميركا نحو الانعزالية، ورفض المشاركة في “حروب الآخرين”، وتنمية الثروة البترولية الأميركية، و”أميركا أولاً” حسب شعار ترامب الانتخابي، قد تلاقت موضوعياً مع تحولاتٍ على الجانب المقابل العربي، باعتناق سياسة الاعتماد على الذات، وعدم انتظار غوثٍ خارجيٍّ، ومع تنويع مصادر التسلح، وبناء أوسع شبكةٍ من العلاقات الاقتصادية مع مختلف دول العالم. وهنا لا بد من ملاحظة نزعةٍ انعزاليةٍ للجمهوري الجديد ترامب، تشكّل امتداداً للنزعة نفسها لدى الديمقراطي باراك أوباما، وإنْ بمضمونٍ خاص لكل منهما. وخلافاً للعسكرة الجامحة التي كانت تميز السياسة الخارجية في عهدي بوش الأب والابن. ولكن، لننتظر قليلا لاكتشاف المسار الذي سيتخذه الساكن الجديد للبيت الأبيض.
وإذا كانت الانتخابات الرئاسية الأميركية قد فقدت كثيراً من جاذبيتها، وباتت صنيعة الميديا التكنولوجية والوسائط التقنية التي تزداد تقدماً، فذلك لأن جاذبية أميركا نفسها إلى انحسار، فهي أشبه بالفيل الذي يحطم الموجودات لدى دخوله محلاً واسعاً، ومع خروجه أيضاً من هذا المحل. ففي حقبة تحرّر الشعوب من الاستعمار، وقفت أميركا ضد الشعوب، ومع بقايا الاستعمار القديم، ومع موجة الانكفاء الأميركي التي تشهدها في هذه الحقبة، أطلقت موجة من البلطجة الإسرائيلية والإيرانية والروسية، يتضرّر منها بصورةٍ مباشرة وبالغة العنف عشرات الملايين من العرب والمسلمين. ولهذا، لا يعود مستغرباً ما نشهده من بوادر متزايدة لتباعد موضوعي نسبي بين حلفاء الأمس، بين الإدارة الأميركية وأصدقائها التاريخيين في المنطقة، بعد أن فرّقت بينهم الرؤى والمصالح والأولويات.
محمود الريماوي_العربي الجديد