في نهاية اللقاءِ الذي كان بعنوان “هي الحياة” طلبتِ الطفلتان آمنة (13 عاماً) وعائشة (14 عاماً) “أسماء مُستعارة” أن تختِما الحفل بأنشودةٍ إهداءً لأمِّهما، صوتٌ عذب.. كلماتٌ رائعة.. إلا أن دموعهما انهالت على وجنتيهما الورديتين!
تنشد الطفلتان بكلماتٍ رقيقة ينساب الشوق منها لأمِّهما، يكسوها حنينٌ قاتل يخرج من سَمِّ خياطٍ قاتم.
تقولُ صفاء (معلمة، 50 عاماً) ذهبتُ إلى الطفلتين بعد أن اختتمنا الحفل، ضممتهما وسألتهما عن سرِّ تلك الدموع، أجابتا: “في مثل هذا اليوم قبل سبع سنوات فقدنا أمّي”.
في مقتبلِ عمرهم، فقدتِ الطفلتان قلب أمهما الدافئ الذي كان يحتوي آلامهما وأفراحهما ويشاركهما تفاصيل طفولتهما البريئة.
كم من ضَحكاتٍ تبادلوا معا، خطواتهما الأولى، وحقيبة المدرسة في بدايةِ العام الدراسيّ، كتبهما، كلمات الوداع المدرسية، عبارات الاستقبال اللطيفة، قُتِلت بقصفِ النّظام السوريّ على مدينتهم والذي تسبب بوفاة والدتهما.
تُخبرني صفاء: “صادف تاريخ حفلنا الذي تحدّث عن الأم وأهميّة برّها، بتاريخ الذكرى المشؤومة لفقدان الطفلتين أمهما”.
بعد أن هدأ صوت القصف في دوما، خلّف وراءه ذلك السكون المخيف، دقائقٌ فقط أخذت معها الحياة، ورحلتِ الأمّ تاركةً خلفها آمنة (ست أعوام) وعائشة (سبع أعوام) وسط رُكام البيت المُخيف.
“أمّي؛ أجيبينا رحلتِ الطائرة، نحنُ بخير.. وأنتِ!”
طفلتان صغيرتان تنظرانِ لجثّةِ أمّهما مُلطخةً بالدماء، وأبٌ مُثقلٌ بالجٍراحِ مُحمّل بهمِّ تربيتهما ورعايتهما.
ومع تكرار قصص الظُلمِ الذي يتلقّاه بعض الأطفال من زوجاتِ آبائهم، تريّث الأبُ عن قرارِ الزواج فترةً بعد وفاةِ زوجته، ولكن عبء رعايتهما اليوميّة واحتياجاتهما من غسلِ الثياب وتنظيف المنزل وتربيتهما، دفعه للزواجِ خائفاً مُترقّب، أمرين أحلاهُما مُر!
لا أحد يأخذُ مكان الأمّ.
ولكن؛ أخيراً حظيتِ العائلة الصغيرة بهِداية (من دوما، 35 عاماً) طيّبة حنونة، تُحبّهما وترعاهما.
ولكن بعد تلك الحادثةِ المروعّة التي قصمت ظهر الأب وفتت قلبيّ الطفلتين، بالإضافة لسوء الوضع المعيشيّ في دوما دفعتِ العائلة للنزوح إلى الشمال السوريّ، كحالِ كلّ الذين لم يُعودوا يُطيقون رائحة الموتِ المنبعثة من المكان، ولا التصالح مع القاتل ليبدأوا رحلةً جديدةً من الفقدِ والفقر.
تصفُ معلمتهم صفاء البيت الذي يعيشون فيهِ فتقول: كحالِ كُلّ البيوت هاهنا في مدينة الباب، سيءٌ كئيب ومرتفع الأجرة، يُصبّرهم على مرارتهِ طلبُ العلمِ.
وتُضيفُ صفاء: آمنة وعائشة مهذّبات مجتهدات، وكأن العلم هو آخر ما تبقّى لهما.
الجديرُ ذكره أنه وفق أحدث إحصاء لفريق “منسقو استجابة سوريا” في الشمال السوري، فإن أعداد النازحين السوريين بلغت حتى شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، ما يُقارب مليوني نازح، من أصل أربعة ملايين سوري يسكنون مناطق المعارضة السورية، في حين يبلغ عدد سكان المخيمات أكثر من 1.43 مليون نازح، يعيشون ضمن 1293 مخيماً، بينها 282 مخيماً عشوائياً أقيمت في أراضٍ زراعية، ولا تحصل على أي دعم أو مساعدة إنسانية أمميّة.
تُخبرنا الطفلتان: زوجةُ أبي طيّبةٌ حنونة تُحبّنا ونُحبُّها، لا أطفال لديها إلى الآن بعد خمس سنواتٍ من الزواج، ونحنُ فقدنا حُضنِ أمّنا.
في كلّ يومٍ نخرجُ صباحاً وعلى عُجالةٍ مودِّعين ملامح أمّهاتِنا الطيبة، نسرقُ قبلةً من جبينهن، أو نُغلِقُ البابَ بصوتٍ يطلبُ الدعاء، وعندَ عودتنا ندخلُ منازلنا وأول ما نتفوّه بهِ نداء “ماما” قد لا نُريد حاجةً ولا نملكُ حدثاً مُهِمّاً قد حصل في يومنا لِنتشاطرهُ معها، إلا أننا ننتظرُ “نعم” المُحمّلة بالأمانِ والدفء وسط أيّامِنا الشديدة، لِنكمل ما تبقى من ساعاتِ يومنا بسكينةٍ.
كحالِ كلّ الذين فقدوا أمّهاتهم تعاني الطفلتانِ، فقدَ تلك التفاصيل في حياتهما لِتعوّض زوجة أبيهم الحنون جزء منهُ ولو بطفيف.
قصة خبرية / مريم الرحمون
المركز الصحفي السوري
عينٌ على الواقع