عانى الباحثون عن أمل في الحياة بعد دخولهم تركيا لأجل العلاج في مشافيها أوضاعاً قاهرة وضعتهم أمام رياح الواقع تحاول اقتلاعهم، لم يخطر ببالهم هذا الألم والوجع الآخر الذي أدى لانتكاسة البعض، أرقت عيونهم هواجس المرض بالتزامن مع مشكلة تأمين حاجات حياتهم اليومية وانعدام مأوىً يحميهم من برد الشتاء لتُطيل فترة شفائهم.
أبو الفضل في الخمسين من عمره دخل عبر المعبر الطبي في باب الهوى فوجد مفاجأة زادت من مرضه وأوجاعه إذ أن الصحة التركية فرضت رسوماً على العلاج ولم يعد مجانياً كما كان، ذلك الخبر عكّر صفوه الحالم بالشفاء وتعثرت خطواته فمن أين له بمصاريف العلاج والدواء والمضجع الأكبرهو أين يسكن ويأكل وينام، كل تلك العراقيل تزاحمت أمام عينيه وقيدته في كامل حريته بعد اندحار النظام من قريته بريف إدلب، لم يعرف أنه في واقع أشد ممانعة من ممانعة النظام الزائفة.
اتصل رجل قريب من أبو الفضل عن إمكانية استقباله لدى أحد أصدقائه يدعى “حسين” كونه عازباً وليس لديه مشكلة في أن يقضي أبو الفضل فترة علاجه عنده وينال الثواب من الله تعالى.
وافق حسين على استضافته كونه مطّلعٌ على أوجاع وآلام السوريين في كل مكان فهو في النهاية إنسان سوري، قرع الباب الرجل ومعه أبو الفضل إلى دار حسين القريبة من إحدى المشافي ليحصل على مكان سرير واحد كما قال بعد إغلاق الدار التي كانت تؤوي الجرحى في زيارته العلاجية العام الفائت.
قام حسين بواجب الضيافة لأبي الفضل وصاحبه وقال “الله يكون معكن يا عم فوق ما نكن مرضانين وبدكن رعاية، ما عم تلاقوا سكن أقل شي، وما عدكن قدرة تستأجروا بيت ومصاريف غيرها”
هرت دموع أبو الفضل فالإنسانية التي يتكلم بها حسين غير معروفة عند العالم اليوم وقال “شايف حتى وأنت عم تتعالج بدهمياك تموت” متحسراً موجوعاً على أهله الذين يظنون أنه يتلقى العلاج وينتظرون عودته بالسلامة، غير عارفين بالواقع الذي يحيط بأبي الفضل فالمرض قد يكون أشد رحمة من تلك العقبات المتحجرة.
يسأل حسين أبو الفضل عن أقارب له يهتمون به أثناء مرضه، فرد عليه “حتى إذا إلي حدا أن بدي كل شوي أدخل الحمام وكل شوي بدي طريق هاي مو حالة، بعدين الناس عايفة حالها بيوت زغيرة و ما في مكان تا تاكل فيه كيف تا تنام” حسين يجيب بكل شفقة “صدقت يا عم صحيح الحالة صعبة عند الكل خصوصا بها الغلاء”.
يقول حسين يخرج أبو الفضل من الدار قبل الغروب إلى معارفه ليقضيَ بعض الوقت وعند عودته يلاحظ أكياسا صغيرة بيده لا يخرجها إلا بعد أن أنام، فأثارت تساؤلات وألغاز عدة في نفس حسين، إذ كان حسين كل ما يدعو أبو الفضل للطعام يعتذر بأنه تناول الطعام في الخارج، وظلت الحال على هذا الأمر فترة طويلة، وعلامات الاستفهام تكبر عند حسين كل مرة لا يتناول شيء في الدار ولا حتى “لقمة”.
وفي أحد الأيام أراد حسين في نفسه كشف لغز الأكياس الصغيرة، وتوجه إلى مكان نومه وأغراضه ليفتح تلك الأكياس وإذا به يعثر على قطع من الخبز وبعض أجزاء من الساندويش وعليها أثار تراب، كما وجد بعض الفاكهة والخضار التالفة، لتقع حقيقة أمام عينيه صعقته على الحالة التي قد يصل لها بعض المرضى وأن أبا الفضل كان يتناول طعاما يجمعه وقت خروجه مساءً من البيت من جانب الحاويات، وكان دائما يرفض دعوته على الطعام.
تجاهل حسين هذا الأمر وأخفاها في نفسه حتى لا يُشعر ضيفه بالحرج لكن أبا الفضل قبل مغادرته بأيام راجعا إلى أهله وبلده، فقال له “حسين بعرف إنك عم تدور براسك أسئلة عن وضعي بقلك أنا كنت لم أكل من الحاويات يا حسين هيك صارت حالنا بغياب العدل”.
لم يتمالك حسين تلك الدمعات التي عبرت في قلبه وشعوره من إظهارها فأصبحت كنبع جارٍ لا يكاد ينفد وصافح أبا الفضل وتمنى له السلامة والشفاء وألا يعود مرة ثانية لدخول تركيا لأجل العلاج كي لا يعيش آلاما أخرى غير آلام المرض.
قصة خبرية/طارق الجاسم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع