د. فيصل القاسم
يقول الزعيم البريطاني الشهير وينستون تشيرتشل: «الحقيقة ثمينة جدًا، لهذا لا بد أن نحميها بسياج من الأكاذيب.» ومن الواضح أن النظام السوري وأبواق ما يسمى بـ«الممانعة والمقاومة» نجحت على مدى عقود في إخفاء الحقيقة بطوفان من الأكاذيب. ففي الوقت الذي كان يملأ فيه الدنيا ضجيجًا بمعاداة الصهيونية والإمبريالية، كان النظام السوري يرتهن ارتهانًا كاملًا للإرادة الأمريكية والصهيونية. وقد سُئل مسؤول أمريكي كبير ذات يوم: « ألستم منزعجين من الدعاية المعادية جدًا لأمريكا في الإعلام السوري»، فأجاب: « نحن لا يهمنا ما يقوله الإعلام السوري، بل ما يفعله النظام لأجلنا، فعندما نطلب منه أن ينفذ لنا أمرًا ما بنسبة أربعين بالمائة، يفاجئنا في اليوم التالي وقد نفذ الأمر مائة بالمائة. أي أنه دائمًا يعطينا أكثر بكثير مما نطلب.» وذات يوم كان الرئيس السوري يركب سيارته، فسأله سائقه: « هل أذهب إلى اليمن أو إلى اليسار يا سيادة الرئيس»، فرد الرئيس:» اذهب الى اليمين، لكن أعط إشارة بأنك ستذهب إلى اليسار».
لقد صدّع النظام السوري رؤوسنا على مدى أربع سنوات من عمر الثورة السورية وهو يشتكي من «المؤامرة الكونية» التي تقودها الصهيونية وأمريكا ضد نظامه. وقد فعل الأفاعيل بسوريا والسوريين بحجة مواجهة «المؤامرة»، مع العلم أنه لو كانت هناك فعلًا مؤامرة على نظامه لما صمد بضعة أشهر. واليوم سقط سياج الأكاذيب الذي أقامه النظام حول الحقيقة ليصبح عاريًا أمام السوريين والعرب. فبينما سقط الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي كان البعض يعتبره «ذخرًا استراتيجيًا» لأمريكا وإسرائيل خلال ثمانية عشر يومًا، ها هو الرئيس السوري «الممانع والمقاوم» بين قوسين يصمد لمدة أربعة أعوام في وجه الشعب السوري والمؤامرة الكونية المزعومة. من هو الذخر الاستراتيجي للصهيونية والامبريالية إذًا: مبارك أم الأسد؟ لا عجب إذًا أن الصحافة الإسرائيلية وصفته قبل فترة بـ«ملك ملوك إسرائيل».
وكي لا يكون الكلام جزافًا، فلننظر إلى الوقائع على الأرض، فلولا اللاءات الأمريكية، لسقط النظام السوري منذ الأشهر الأولى. وقد سمعت من مسؤول روسي كبير كلامًا قويًا يقول: «لا تلوموا روسيا، فليست هي التي تحمي الأسد بالفيتو، فلو أرادت أمريكا إسقاطه لما أعارت روسيا أي انتباه.» ويقول الكاتب السوري أحمد خطاب في هذا الصدد إن الذي حمى الأسد فعليًا اللاءات الأمريكية الثلاث، وليس الفيتوات الروسية الأربعة. الـ«لا» الأولى تمثلت في حرمان المعارضة من الصواريخ المضادة للطائرات التي دمرت معظم المدن، وقتلت مئات الآلاف بالبراميل المتفجرة، وشردت الملايين. لكن الـ«لا» الأمريكية كانت بالمرصاد تحت ذرائع واهيه. رفضت أمريكا أن تزود السوريين بأي سلاح من هذا النوع . والأخطر أنها منعت كل الدول المتعاطفة مع الشعب السوري من أن تقوم بهذا الأمر.» أما الـ«لا» الثانية والأخطر كانت رفض الإدارة الأمريكية القاطع السماح بإقامة منطقه آمنه على الحدود أو في الداخل ،منطقه تسمح للقوى الوطنية والديموقراطية السورية أن تجتمع في جو آمن، وتتداول في الشؤون و الشجون السورية، كما تسمح للقوى العسكرية الوطنية أن تؤطر نفسها وتتوحد، وتسمح أيضا لملايين المدنيين الفارين من الحرب أن يعيشوا حياة طبيعية بالحد الأدنى، بعيدًا عن الموت والدمار. وهكذا ورغم النداءات الملحة من أطراف كثيره سورية ودولية، بقيت الـ«لا» الأمريكية على حالها، وكانت النتيجة تزايد عدد النازحين واللاجئين ليصل الى نحو ثلاثة عشر مليونًا. وهكذا اضطر نصف الشعب السوري تقريبًا أن يهيم على وجهه داخل بلده أو في دول الجوار، ويموت الآلاف منه غرقًا في مراكب الموت، أو حرقًا تحت البراميل المتفجرة، أو قتلًا بآلات التعذيب الوحشية في المعتقلات و المراكز الأمنية. كل ذلك مع أن أوباما هذا «الصديق الصدوق « للشعب السوري كان بإمكانه ببساطه تفعيل القوانين الدولية الخاصة بحماية المدنيين في أوقات الحرب لخلق مناطق آمنه تحت رعاية الأمم المتحدة . كلنا يذكر المناطقِ الآمنة التي أقيمت في التسعينات في شمال العراق وجنوبه وتللك التي أقيمت في أكثر من منطقة في البلقان. أما «اللا» الثالثة والأخطر بكثير هي ﻻ غير معلنة، باطنية، مضمرة، وتتمثل برفض أوباما اﻻعتراف بثورة الشعب في سوريا و الحديث بدل ذلك عن عنف أو تطرف أو حرب أهلية، وكل ذلك من باب المراوغة والهروب من مواجهة الحقيقة واﻻستحقاقات السياسية والأخلاقية المترتبة عليها. والمثال الفاقع على ذلك كان مسارعته لوضع أي فصيل معارض للنظام الأسدي على قوائم الإرهاب في حين أنه يتغاضى تمامًا عن فصائل أخرى كثيرة تمارس العنف نفسه والتطرف نفسه في مواﻻة ذلك النظام .الجناح العسكري لحزب الله اللبناني، أبو الفضل العباس، عصائب الحق ، وكذلك التدخل الإيراني الواضح عسكريًا وسياسيًا وماديًا وتسليحيًا مع تلك المليشيات المتعددة الجنسيات التي ارتكبت الفظائع بحق الشعب السوري المغدور.»
عندما تسمح أمريكا وإسرائيل للميليشيات الشيعية بقيادة إيران أن تدخل إلى سوريا للقتال إلى جانب النظام بعشرات الألوف وعلى حدود إسرائيل، ماذا يمكن أن نفهم من ذلك إلا أن أمريكا وإسرائيل تريدان ترجيح كفة النظام في القتال ضد معارضيه؟ ألم تستنفر أمريكيًا نوويًا عام 1970 عندما دخل الجيش السوري إلى الأردن؟ وقد ذكر الرئيس الأمريكي الراحل نيكسون في مذكراته أنه: «طوال أسبوع بعد دخول القوات السورية إلى الأردن، لم استطع النوم كما يجب، إلى أن هاتفني ذات مساء الملك حسين ليخبرني أن القوات السورية بدأت فعلًا باﻻنسحاب من الأراضي الأردنية، ليلتها فقط عزفت على البيانو ، ونمت بعمق لأول مره .»فلماذا إذًا غضت أمريكا الطرف عن دخول الحرس الثوري وميليشياته الباكستانية والأفغانية واللبنانية والعراقية واليمنية إلى سوريا؟ أليس لأن هناك مباركة أمريكية لدعم قائد الممانعة والمقاومة المزعومة؟
لو كانت إسرائيل فعلًا تريد إسقاط نظام الأسد لما وجدت أفضل من وقت الثورة بعد أن أصبح في أسوأ وأضعف حالاته، هذا لو كان يشكل فعلًا خطرًا عليها. لكنها تركته، وحمته في دوائر القرار الأمريكية. وأيضًا أمريكا لو أنها تريد إسقاط النظام فعلًا، لصنعت له معارضة قوية بسرعة البرق كما فعلت مع صدام حسين عام 2003، حيث جمعت كل المعارضين العراقيين المتسكعين في شوارع لندن ودمشق وطهران في مؤتمر عاجل في لندن على الرغم من خلافاتهم الأيديولوجية الهائلة، فتوافق العلماني مع الملحد مع السلفي مع ولي الفقيه خلال أيام ليستلموا السلطة في العراق. وبقدرة قادر أصبح نوري المالكي رئيسًا للوزراء في العراق، بينما تذرع أوباما بأن المعارضة السورية التي تقاتل الأسد هي ثلة من المزارعين وأطباء الأسنان، «وكأن ثورة الزاباتيين في المكسيك لم ينجزها المزارعون والفلاحون الفقراء! وكأن الثورة الكوبية ضد الدكتاتور باتيستا لم يكن على رأسها أطباء»!
لم يعد خافيًا على أحد أنه لولا الدعم الأمريكي لما بقي نظام الأسد حتى الآن. كيف لا وقد كانت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت أول مسؤول دولي يجتمع بالرئيس السوري قبل الإعلان رسميًا عن تنصيبه خليفة لوالده حافظ الأسد عام 2000. ولو لم يكن بشار مدعومًا دوليًا إذًا، لما فعل ما فعل من فظائع بحق السوريين دون أن يحاسبه أحد. وسيذكر التاريخ ان كل ما اقترفه النظام من جرائم لم يسبق لها مثيل، كانت بضوء أخضر امريكي، فلا يمكن لنظام في العالم أن يفعل ما فعله الأسد لو عارضته أمريكا فعلًا.
لقد كان النظام السوري وأبواقه أكثر من هاجم مشروع «الفوضى الأمريكية الخلاقة» في العلن، لكنه، حسبما نرى من فظائعه وضربه لاستقرار المنطقة بأكملها، أنه القائد الفعلي لمشروع الفوضى.
بوجود هكذا مقاومين، فهل تحتاج أمريكا إلى مقاولين؟
|