قصة خبرية
بقواها المنهكة تصر “أم يحيى” على تحدي الصعاب وسد الثغرة التي خلفها زوجها بفقدانه، صاروخ واحد كان كفيلا بخسارتها ثلاثة عشر شخصا من عائلتها في يوم واحد، زوجها المنهك في معتقلات النظام تركها وحيدة تكمل مشوارها بعد فقدانه، معاناتها مع أطفالها الثمانية ومنهم ثلاثة من ذوي الاحتياجات الخاصة، تزيد عليها مشقة الطريق، دموعها المتساقطة بسخاء تحكي حالها أكثر من لسانها، يوجد في هذه الحياة ما يستحق الحياة.
تسع سنوات عجاف من الحرب في سوريا خلفت أكثر من نصف مليون قتيل (والأعداد أكبر من ذلك) حسب مفوضية الأمم المتحدة، وأكثر من مئة ألف مفقود في معتقلات النظام أو تعسفيا في مناطق سيطرة المعارضة بحسب “هيومان رايتس وتش”.
تعيش عائلات المفقودين في دوامة من الشك والقلق، يسعى أغلبهم لمعرفة أي خبر عن ذويهم ولو كلفهم ذلك الكثير من المال, رغم ظروفهم المعيشية الصعبة.
صوتها خافت، دموعها سخية، تحدثنا بحرقة أم يحيى (33 عاما من بلدة المغارة في جبل الزاوية) عن معاناتها منذ بداية الحرب.
في أوائل الثورة كنت أعيش مع زوجي – الذي كان يعمل في البناء – في حي التضامن في دمشق وكالعادة خرج في أحد الأيام الى عمله باكراً وفي موعد عودته المعتاد لم يعد الى المنزل، أحاطت بي الهواجس والشكوك لا يوجد أحد أسأله عن زوجي وبعد مضي عدة أيام علمت أن زوجي معتقل في فرع المزة، حاولت بكل الطرق الوصول إليه ولكن دون جدوى.
حملت حقائبي مع جراحي وذهبت الى القرية وبعد مضي سبعة شهور استيقظت صبيحة أحد الأيام على صوت أحدهم ينادي خلف الباب, بصوت خافت خائف أجبت من على الباب فأجاب أبو يحيى , ظننت أني في المنام ولم أستيقظ بعد لكن بعد أن فتحت الباب علمت أني في الواقع, أحسست أني عدت إلى الحياة مرة أخرى, لكن بعدما نظرت في عينيه لم أستطع إقناع نفسي أن من يقف على الباب هوي زوجي, ملامح وجهه, نبرة صوته, التعب الواضح في عينيه, لا هذا ليس زوجي, بلا إنه زوجي, سبعة شهور من التعذيب والإجرام كانت كفيلة بإعادة زوجي الي وكأنه شخص آخر.
وفي منتصف العام 2013 وبينما كنت أعمل في منزلي سقط صاروخ قادم من معسكر جورين بالقرب من منزلي لم يكن لديه أي شفقة ولا رأفة بحالي قتل أمي وأختي وإخوتي الاثنين وعشرة أشخاص آخرين من أبناء عمومتي، أخرجت أطفالي من تحت سقف منزلنا المتهالك، يحيى تعرض لشظية في فخذه وابنتي راما أحترق وجهها بالكامل.
بعد ذلك لملمت جراحي، حزمت أمتعتي، دفنت ذكرياتي بدفن عائلتي، أعلنت الرحيل عن روحي، سافرت الى المجهول هربا بزوجي وأبنائي.
في أحد مراكز الإيواء في محافظة إدلب كانت البداية, انتقلنا بعد ذلك الى قرية كفر كرمين وجلسنا في المسجد لعدة أيام, ثم خرجنا الى مدينة معرة مصرين وبعدها الى قرية كفتين وجلسنا في خرابة لا تستطيع الوحوش العيش فيها, لم يطل فينا المقام بها حتى غادرنا إلى قرية السفلانية بريف حلب, وجلسنا فيها أكثر من ثلاثة أعوام, وفي أثناء جلوسنا فيها خرج زوجي الى المعارك بعد تقدم قوات النظام الى ريف إدلب الجنوبي, ومنذ ذلك اليوم لا أعلم أين ه, مفقود, معتقل, مقتول, لكن كل من كان معه في ذلك اليوم أكدوا لي أنه خرج من المعركة بسلام.
اليوم لم يعد لأطفالي الثمانية أي معيل بعد مرور ما يقارب العامين على فقدان زوجي، زوجت ابنتي الكبرى راما مواليد (2005) وهي في سن صغيرة لأخفف أعباء الأبناء عني، لكن بعد فترة وجيزة لم تستمر أكثر من خمسة شهور طلقها زوجها وعادت الي وهي حامل الآن.
أطفالي عبد الله وعبد الهادي وحنيفة لم تتجاوز أعمارهم الأربع سنوات, يعانون من ضمور عقلي وشلل حركي وهم بحاجة للعلاج بشكل مستمر، يكبرون أمامي وكل يوم يمضي أحس بأن ساعة فقداني لهم قد اقتربت.
تعيش أم يحيى اليوم في أحد مراكز رعاية الأيتام الأرامل في الشمال السوري، تلملم جراحها، تعزي نفسها، تكابر على ألمها، تجلس عند مغيب الشمس لتودع الأيام بسرعة, على أمل أن تحمل لها الأيام المقبلة ما يخفف عنها ألمها ولسان حالها يقول
” ربي اجعل لي القادم أجمل من كل التوقعات”
بقلم: حسام الأسود