مجازفة كانت، عندما قررت أن أذهب لأتفقد بيتي في حلب في منطقة ” جب الجلبي” الذي يتوسط حيي الإذاعة والزبدية، غادرت منزلي منذ أربع سنوات في رمضان إثر محاولة الجيش الحر تحريره.
استخدم النظام أثناء اقتحامه للحي كافة أنواع الأسلحة ضد المواطنين الأبرياء.
عشرات من نقاط التفتيش واجهتنا و قناصة على أبراج القلعة يستطيعون كشف مناطق واسعة من المدينة، وجثث الأشخاص الذين يقنصونهم أثناء عبورهم ” معبر الموت” قد تبقى أيام قبل سحبها.
لم أشعر بكمية الدمار الهائل رغم متابعتي آخر الأخبار على التلفاز إلا عندما بدأت وأطفالي الثلاثة في عبور المعبر الذي يصل بين شطري المدينة، حيث يحصد القناص أرواح المارين.
بدأنا رحلة الموت التي كادت تقطع أنفاسنا من شدة الخوف، وصلنا إلى “بستان القصر” الذي يعج بالناس بالرغم من كل الدمار، صخب يتحدى الموت هناك، باعة وأناس يتبادلون البضائع لتستمر الحياة في حلب، فارتفاع الأسعار في مناطق النظام دفع الناس للمجازفة بحياتهم من أجل تأمين لقمة العيش.
و أخيرا وصلنا إلى حي “الزبدية” المحاذي للحي الذي كنت أسكنه ” جب الجلبي” وأخبرتُ أنه من المستحيل الوصول إلى هناك، لأنها منطقة ساخنة ومواجهة لقناص الإذاعة، بدت الحياة رمادية اللون كفيلم باهت أبيض وأسود.
بقايا أكوام من الحجر ودمار تفوح من تحته رائحة الموت، لم تسعفني كلماتي لأعبر عما شعرت به في تلك اللحظات، بل أسعفتني دموعي، لم أشعر بوجود أطفالي حولي، هم أيضا انتابهم الذهول والألم مما خلفته الحرب.
استفقت من سهوتي على صوت شاب ينبهني أن أبتعد عن منتصف الشارع كي لا نكون هدفا لقناص الإذاعة، الذي لم يسلم الكثير من السكان هناك من رصاصه، ماذا فعل هؤلاء الناس ليعاقبوا بهذا لشكل النازي، دمار في كل
مكان دفنت تحته حكايات وقصص أصبحت ذكريات لمن بقي حيا، وفي طي النسيان للبعض الآخر، في ذاك الحي ” الزبدية” الذي كان يعج بضجيج الناس والسيارات، براميل الموت أعدمت كل شيء فأصبحت خاوية على عروشها.
أغلب الناس غادروا المنطقة، تركوا بيوتهم دون أمل في العودة، ليبحثوا عن مناطق أكثر أمنا.
توجهت وأطفالي لأتفقد إحدى الجارات هناك، و مشينا بجوار الجدران بسرعة كما أرشدونا هناك حتى لا نكون هدفا لقناص الإذاعة المجاور. تفاجأت عندما فتحت مريم الباب لنا بعد أن فقدت الأمل أن أجد أحدا ممن كنت أعرفهم، لم تغادر منزلها بقيت وأسرتها صامدين، رغم خطورة الحياة هناك وصعوبتها، لم يكن باستطاعة زوج مريم استئجار بيت آخر وتأمين حياة أكثر أمنا ويقنعها أن لا مفر من الموت، تبادلنا الأحاديث لساعات طويلة، أبلغتني عن وفاة الكثير ممن كنت أعرفهم، وعن آخرين هاجروا، اعتصر الحزن قلبي، فالفقراء وحدهم دفعوا ثمن تلك الحرب.
أغلب الأحياء الشرقية في حلب تبدو وكأنها مدن أشباح، وخاصة الأحياء الساخنة المحاذية لمناطق سيطرة النظام، غابت مقومات الحياة عن تلك الأحياء، حيث يعاني ما تبقى منهم من نقص في الغذاء والماء والكهرباء والأدوية والنظافة و”المدارس” التي يجد النظام فيها مكاناً خصباً لصب جام غضبه، عداك عن صعوبة التنقل، كل ذلك كان خير من التشرد والعيش في مرارة اللجوء.
لقد اغتال النظام حلب القديمة فاستشهد حتى الحجر، كنوز وتاريخ في قلعتها وأحياؤها وأسواقها أخفاها الدمار.
في الصباح الباكر توجهنا للعودة باكرا قبل أن يبدأ النظام حملته النازية، استودعنا حينها حلب وأهلها عند الله، حاملين في أعماقنا ذكريات أليمة تعتمل في قلوبنا، آملين أن يحمل لهم المستقبل ألوانا من السعادة تنسيهم قساوة ما مروا به من قهر و حزن.
المركز الصحفي السوري –سلوى عبد الرحمن