بيسان”اسم مستعار” ، فتاةٌ دمشقيّة، تَنَشَّقَتْ عبيرَ الياسمين منذ نعومة أظفارها.
تعيش في بيتٍ دمشقيّ، تتوسّطه نافورةٌ تحيطُ بها الورود إحاطة السّوار بالمعصم، وتتناثر زهرات الياسمين في أرجائه كحبّات اللؤلؤ المنثور.
شاهد كيف يكون الأخ سبب مآسي أخوته ويسلب أملاكهم!!
جدائلُها المتطايرة تحكي لك ألف حكاية وحكاية كلّما حلّقتْ بها أرجوحة النارنج.
كانت ضحكاتُها تملأ المكان، وبسمتُها لا تفارق مُحيّاها. سعادةٌ غامرةٌ عمّتْ أرجاء المنزل إلى أنْ تخطَّفَ الموتُ والديها فجأة.
كانَ يوماً عصيباً، طائرةٌ محمّلةٌ بالبراميل المتفجّرة ألقتْ حمولتها على ذاك الحيِّ، هدمت من المنازل ما هدمتْ، وقتلت من المدنيّين ما قتلت؛ ومنهم والداها.
تُغمِضُ بيسانُ عينيها الواسعتين، وتستذكر بألمٍ ذاك اليوم، تُطرِقُ رأسها حُزناً، ثمَّ تقول:
“كانَ يوماً عصيباً حقّاً، كنت يومَها جالسةً في المنزل أنتظر عودة والدَيَّ، لكن انتظاري طال، ولن يعودا أبدا. أحدُ البراميلِ المتفجرة سقط عليهما وحوّلهما أشلاء تطايرتْ في السماء، وتطايرت معها أحلامي وأيامي”.
رجلٌ في السّتين من العمر، حفرَ الزّمنُ في وجهه أخاديدَ عميقةً، يقرع الباب. تفتح بيسان، حزنٌ كبيرٌ خيّم على وجهه، والدموع تغمر عينيه، يقترب منها، يحتضنها، ومن ثمَّ يجهش بالبكاء.
إنّه جدُّها لأبيها، وهو كلّ ما تبقى لها في هذا العالم الذي ضاق عليها رغم اتّساعه.
تنظر بيسان إلى بيتها، ترمقه النظرة الأخيرة، تتنشّق آخر شذراتٍ من عطر الياسمينة، تودّع شجرة النارنج التي كثيراً ما باحت لها بأحلامها، تُغلق خلفها باب المنزل، تمسك بيد جدّها، لتبدأ معه رحلة النّزوح إلى إدلب في الشّمال السّوري.
خيمةٌ صغيرة في الشّمال، لاتكاد تتسع إلى جزء بسيط من أحلامها التي خُنِقَتْ بعد مغادرتها بيتَها الرَّحب في دمشق، هذا الذي انتهى به مطاف مسيرة نزوح بيسان.
حاول جدّها جاهداً أنْ يرعاها، لكنّه بات عاجزا عن تأمين حاجياتها وحمايتها بعد أنْ بلغ من الكِبَر عِتِيّا، وهي لا تزال في ال14 من عمرها، متفتحةً كوردة جوريّة، لكنْ سرعان ما أصابها الذّبول بعد أنْ زفّ لها جدُّها خبرَ زفافها.
كان بعض الأشخاص في المخيّم قد اقترحوا عليه تزويجها، ولاسيما في ظلّ الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة التي يعيشها الناس هناك بعد الحرب.
تقول بيسان:
“كانت صدمتي كبيرة عندما أخبرني جدّي أنّ أحدَهم قد تقدّم لخطبتي، وأنّي سأتزوج قريبا. لم أستطع الحديث، لا أعرف يومها لمَ فضّلتُ الصمت، وأنا التي أحب التعليم. وافقته فيما ذهب إليه، وفرحت في الثوب الأبيض، وحفلة الزّفاف، دون وعي مني ولا إدراك لحقيقة الزواج، ومسؤولياته”.
تزوجت بيسان، وبعد 4 أعوام انتهت حياتها بالطلاق. فتحت عينيها على واقع مؤلم، فهي في ال18 عشر ومطلّقة.
كان حريّاً بها أن تكون الآن في الجامعة، تكمل دراستها، وتحقق أحلامها.
ولكن اللافت للنظر هو التغيير الكبير الذي حصل لبيسان بعد تجربة الزواج في سنٍّ مبكر، ومن ثمّ الطلاق وهي في مقتبل العمر.
بيسان أصبحت الآن أكثر نضجاً، وأكثر وعياً. استطاعت أن تجعل من تجريتها الفاشلة دافعاً إيجابيا لها لمواصلة دراستها وتحقيق أحلامها.
فتلك التي اكتفت بالصمت وهي صغيرة واكتفت بفرحة العرس وثوب الزفاف ما عاد هذا حالها الآن.
أصبحت الآن تتحدث بوعي وجرأة، يملؤها العزمُ والإصرار. فهي اليوم ليست كسابق عهدها. تقف في وجه المجتمع، وتتصدى لكل الظروف، وتواجه وضعها الجديد كمطلقة وما له عليها من تبعات في مجتمع لم يرحمها.
كانت ردّة فعلها بعد وضعها الجديد غير متوقّعة بالنسبة للوسط الذي تعيش فيه. قررت أنْ تبدأ من جديد، فخرجت لهم امرأة حديدية بعد انكسارها.
” الزواج المبكر غلط كبير من الأهل والبنت، والأفضل في هذا السّن متابعة الدراسة، أشعر بالنّدم وأتمنى لو بقيت في بيت جدّي ولم أتزوج”.
بهذه الكلمات ختمت بيسان حديثها، ثمّ رفعت رأسها، ونظرت إلى السماء. أغمضت عينيها والبسمة بادية على محيّاها، وكأنها تريد أنْ تخبرنا أنَّها عازمة على تحقيق أحلامها.
فَمِنْ رَحِمِ الألم تُولَدُ القوّة.. ومحالٌ أنْ ينتهي الياسمين والزّيتون.
ظلال عبود
قصّة خبرية
المركز الصحفي السوري