كان جمال يصرخ ويرتجف وهو يحاول إقناع الجموع الغاضبة أنّه ليس من أحرق الغابة ولا أحرق سكانها، لكن للأسف دون جدوى.
أخرجوهُ من دوريّة الشرطة وانهالت عليه مجموعةٌ أيادٍ بالضرب المبرح حتّى أدْمتهُ، بينما اكتفتْ الجماهير خارجا بالهتاف لإحلال الثأر والانتقام من أول المشتبهِ فيهم بحرق غابات وسكان منطقة القبائل.
بعد الضرب، سحلوهُ كما يُسحل القتلة، ووضعوه مغشيا عليه وسط ساحةٍ كبيرة، أمام مسجدِ القرية، وغطوه بالبلاستيك، وأضرموا النيران في جسده الهزيل، وهو يصرخ ويتلوّى ألمًا.. وهم يعتقدون أنهم انتصروا بحرقِ بريءٍ لا ذنب له.
في 11 أغسطس / آب الجاري، انتشرت صورٌ ومشاهد حيّة مروّعة، لأعدادٍ هائلة من الشباب بمختلف الأعمار وهم يقتادون الشاب جمال بن سماعيل ابن مدينة مليانة ويجرونه من سيارة الأمن الوطني في ولاية تيزي وزو بمنطقة القبائل، إلى ساحةٍ كبيرةٍ وسط قرية “الأربعاء ناث ايراثن” في مكانٍ غير بعيدٍ عن مسجدِ القرية، واجتمع عليه هؤلاء فقاموا بالتنكيل به بطريقة وحشيةٍ .
وبمجرّد أن أوشك على مفارقة الحياة طرحوه أرضًا صبوا على جسده لتراتٍ مغرقةٍ من مادة البنزين، وأحاطوه بمجموعةِ موادٍ سريعة الاشتعال مثل قارورات الماء البلاستيكية والأكياس البلاستيكية بمختلف أنواعها بالإضافة إلى ورق الكرتون لتأجيج اللهب وتركوه حتى تفحّم.
بدأت الحكاية منذ التاسع أغسطس لهذا العام، إذ استعرت الحرائق المهولة في 26 من أصل 58 ولاية في الجزائر، متسببة في مقتل 90 شخصا على الأقل، بينهم 33 جنديا، بحسب تقارير مختلفة للسلطات المحلية ووزارة الدفاع.
وخلال أيام الاشتعال، كانت قوافلُ التضامن التي أطلقها الشعب ونظّمها تصلُ إلى المناطق المتضررة، وقد انقسمت إلى طائفةٍ تقوم بمساعدة المتضررين وإغاثتهم وتقديم الأغطية والأدوية التي يحتاجونها، وإلى شبابٍ مجندة لأجل إطفاء النيران المتقِدة بجانب قوات الجيش الوطني ووحدات الإسعاف والحماية المدنية وغيرها من أطقم الكوارث.
وقد كان جمال؛ الشاب الثلاثيني من بين الذين تجنّدوا لإطفاء لهيب الحرائق ومحاولة محاصرتها، واضعا فرضية الموت أثناء الإطفاء؛ لكن طريقة موته فيما بعد اتضحت أنها أسوء من كلِّ ظن.
ظهر جمال في بعض الوسائل الإعلامية المحليّة أثناء قيامه بعمليات الإنقاذ برفقة شبان جاؤوا من ولاياتٍ مختلفة، وقد أعرب عن نيته الإنسانية في مساعدة أهالي المناطق المتضررة؛ وهذا ما زاد من فداحة الجريمة الشنعاء فيما بعد.
استمرت الحرائق في اجتثاث المحاصيل وحصد الأرواح، ودخلت البلاد في مرحلة خوف ثقيلٍ بسبب ما يحصل، وقد غطت وسائط التواصل الاجتماعي جميع أحداث وحيثيات الحرائق، مما كوّن لدى الرأي العام الشعبي ضغينة ضدّ مفتعليها، لكن للأسف الضغينة وُجّهت للشخص الخاطئ، لم يمض يومان حتى اتّهم جمال باشتباهه في إشعال الحرائق، كيف ذلك؟ تحجج القتلةُ بأنّهُ كان في سيارة غير مرقمة، تحمل قارورة بنزين وولاعة، وصدّقت الناس الحكاية وتعاملوا معه كما كان الثوار يتعاملون مع كبار مستعمريهم حين الانتقام.
انتشرت شائعاتٌ كالنار في الهشيم مفادها أن جمال متسببٌ في الحرائق، وبينما كانت دورية الشرطة تتجهُ به إلى مركز الأمن، حضرتٌ أكوامٌ بشرية غاضبة؛ صبّت جامّ غضبها على الشاب الهزيل المشتبه به وحطّمت مفتاح سيارة الأمن في مشهدٍ همجي وتسللت مجموعة شبانية وقامت بالاعتداء عليهِ وتوثيق اللحظات وسط صراخِه وطلبه النجدة، لم يجدِ الأمر نفعا ولم تنجح محاولاته ولا صراخه الممتزج بالدموعِ والخوف ضميرا صاغيا؛ كل ما وجده جمال مجموعةً مستذئبة تنظر إليه كما ينظر. كلبٌ مسعورٌ إلى طريدته، ومجددا؛ كانت صورة الإنسانية ضعيفة أمام الشر الذي غذّته الحرائق وشحنات العنصرية التي لا نستطيع تغطيتها بأي ادعاء.
المثير للاستفزاز والاستنكار في قصة جمال؛ إصرار المجرمين على توثيق جريمتهم وسط قهقهاتهم وتحريضهم على التنكيل به أكثر، بعد حلقات ضربٍ متواصلة، أخرجوه من السيارة وسحلوه إلى ساحة تتوسط القرية، وأضرموا النار في جسده وهم يصورون أنفسهم أبطالا؛ وأطلق الكثير منهم بثا مباشرا على الفيسبوك حينما كانت الجثة تحترق، احترق جمال واحترقت معه كامل مظاهر الإنسانية والتعايش المهتوف به منذ الأزل بين العرب وسكان القبائل.
ولم يتوقف الجرم الهمجي عند هذا الحد، بل تواصل؛ فبعد أن تفحمت جثته ظهرت امرأة وهي تحرض أحد الرجال على ذبحه وقطع رأسه، واستجاب فورا واستلّ سكينا مجهزا وذبحه على مرأى ومسمع المئات الذين آثروا الصمت على هذه الجريمة لا وبل تمجيدها وتصنيفها ضمن خانة “الثأر”. وبات الثأر، أكثر الكلمات التي دنسها الإنسان واستعملها كشمّاعةٍ لتعليق خطاياه وتبرير جرائمه مهما بلغت شناعتها.
ساعاتٌ قليلة وانتشرت صور الجثة ومقاطع جمال السابقة التي يظهر فيها ممسكا بغيتارته وهو يغني للحياة، لبلاده الجزائر، لقطّه سيزار ولكل الإنسانية.
واتضح بعد ذلك أن الثأر البطولي لم يكن سوى خطيئة كبرى راح ضحيتها شابٌ عريض الابتسامة لطالما حاول أن يغني ويجعل العالم سعيدا، وأن الذي قتله جزّ كبد أمه بمنجل الفقد، أمه التي لم تعلم طريقة موته البشعة، ووالده الذي كابر الألم لأجل ألا تتجه البلادُ إلى نفقِ الانتقام والعنصرية، وقد قال لأعيان منطقة القبائل حينما أتوا لتعزيته وتبرئة ذمتهم من القتلة: خسرتُ ابني وربحت الشعب.
من يدري، قد يكتُب مؤرخ ما، في وقت ما أن بلادا بأسلحتها لم تستطع أن تنقذ شابا تعذب طيلة ساعات أمام الملأ، وأن شعبا يتعذى على الكراهية قطع رأسَ بريءٍ لمجرد اشتباهه في إشعال حريق، وأنّ أبا ستينيا أمسك دمعه الحار على فقد ابنه لكي لايبكي الشعب المهزوم نفسيا، وأنّ نهاية الإنسانية تمت حينما قرر شابٌ هزيلٌ من مليانة لا يملك سوى غيتارة وشعرًا ملويا جميلا أز يُطفئ شجرةً تحترق، فانطفأت الشجرة واشتعل جسده.
قصة خبرية: خديجة ميسوم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع
رحم الله البطل جمال، واحلّ انتقامه على القتلة.