منذ أن استعر أوّار الحرب السورية قبل خمس سنوات ونيّف، تبدّلت مفاهيم وقيم مجتمعية كثيرة تشبّث السوريون بها طويلاً، ما ترك المجتمع في حالة من الفوضى العامة على مختلف المستويات المادية والمعنوية، وانعكس على الرؤية العامة للحياة والمستقبل الذي يبدو حتى اللحظة غامضاً وقاتماً، لا سيما لشرائح الشباب من الجنسين.
فبالنسبة إلى الذكور، اغتالت الحرب أحلامهم وآمالهم في بناء حياة مستقرّة وآمنة، حيث أخذتهم في اتجاهات ومسارات لا تناسبهم ولا تليق بتطلعاتهم ورؤاهم. فمنهم من التهمت الخدمة الإلزامية أحلى سنوات عمره ومعها الاستعداد لمستقبل كان مفعماً بالخطط والبرامج سواء على مستوى العمل أو الدراسة أو الزواج، ومنهم من هاجر كي ينال بعضاً من هذا، ومنهم من قُتل أو اختُطِف أو اعتُقِل أو التحق بركب أحد الأطراف المتحاربة. وبهذا نجد أن المجتمع خسر عدداً ليس بالقليل من شبابه الذكور، ما خلخل لوحة الحياة ومفاهيمها وقيمها، وانعدم التوازن في معادلة الجنسين اللذين يُشكلان معاً طائر الحياة، التي لا يمكن أن تُحلّق بجناح واحد بائس، بينما الآخر مهيض ومُهشّم.
مجد (32 سنة) يؤدّي الخدمة الإلزامية منذ أكثر من ست سنوات، حين تطالبه والدته بالزواج يرفض بشدّة لأنه غير مستعد لهذا الأمر لا نفسياً ولا اجتماعياً ولا مادياً، قائلاً: “لا يمكنني أن أربط مصيري بمصير أيّة فتاة، لأنني وببساطة لن أتمكّن من الوفاء بالتزاماتي وأنا شبه غائب عن البيت”.
فارس (27 سنة)، متخلّف ومتوارٍ عن الأنظار، يقوم بأي يعمل يستطيع الحصول عليه، بحكم وضعه الواهي. لا يستطيع مجرّد التفكير بالحصول على عمل يتناسب مع إمكاناته، مثلما لا يستطيع الزواج، وهو بالتالي إنساني حي- ميت لا معنى ولا قيمة لوجوده سوى بالإنتظار وترقّب ساعة انحسار نيران هذه الحرب.
مجد وفارس وأمثالهما كثر، دفنوا أحلامهم في تربة يأسهم، وباتوا أشبه بكائنات غريبة في المجتمع، لأنهم باختصار يعيشون القهر والحرمان بمعانيه وألوانه، مقيّدون عن الحياة الطبيعية.
أمّا واقع الفتيات فليس أفضل بكثير، إذ بقيت غالبيتهن على مفترق طرق كلها وعرة وشائكة وموجعة بالقدر والوقت ذاتهما، لا سيما في ما يتعلّق بالزواج الذي بات لهنّ مجرد حلمٍ قصي وبعيد المنال وفق رؤاهن والأحلام التي كانت متشبثة بتفكيرهن، لأنهنّ في مواجهة واقع مرير يجعل غالبيتهن في دائرة الإعالة لأسرة فقدت معيلها فلا يسمح لها وضعها بالزواج، أو أنها مضطّرة لخيارات أشدُّ فظاعة ومرارة تجعلها تقبل برجل يكبرها بأعوام قد تصل إلى الضعف، أو أن تقبل برجل لا يناسبها فكرياً وثقافياً وحتى اجتماعياً، أو أن تتزوج عن طريق الصورة والـ “نت” من دون معرفة واقعية وتوافق حقيقي، أو أنها تقبل أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة ورابعة، وإلاّ ستقبع في خانة العنوسة التي ارتفعت نسبتها بعد الحرب نتيجة لكل ما تمّ ذكره.
هدى (20 سنة)، وافقت على الزواج من رجل متزوّج ولديه أولاد، يكبرها بـ20 سنة معتبرة زواجها منه ظفراً قد لا تطاله قريناتها، لأن معظم الشباب إمّا مهاجرون، وإمّا ملتحقون بالخدمة العسكرية، ومنهم من هو غير قادر على الزواج نتيجة الظروف المعيشية الصعبة.
وفاء (18 سنة) قبلت الزواج برجل في الـ40 من عمره، لأن والدها فقير وغير قادر على تأمين معيشتها وأخواتها، فهم مهجّرون من محافظة مشتعلة ويقطنون أحد مراكز الإيواء، صرّحت بأنه نتيجة هذا الواقع قررت الزواج بأي شّاب يتقدّم لها، علماً أنها كانت تطمح لإكمال دراستها، ومن ثم ستفكّر بالزواج من شاب متعلّم ومناسب.
أمّا أميمة، فقد وافقت على الزواج من رجل مغترب منذ سنوات، تعرّفت إليه على شبكات التواصل، ووافقت على الزواج منه لأنه سيحقق لها بعضاً من حاجاتها وأوّلها الأمان والاستقرار.
القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود المعراوي أفاد بأن 50 في المئة من عقود الزواج في سورية تمّت بالوكالة بحكم هجرة الشباب، وأن نسبة عقود تثبيت الزواج في المحكمة لأزواج يتزوجون مرة ثانية أو ثالثة فاقت الـ40 في المئة، وكانت لا تتجاوز 10 في المئة.
وأضاف المعراوي أن المحكمة الشرعية لم تعد تدقق في مسألة الزواج الثاني كأن يكون الزوج قادراً على هذا الزواج أو غير قادر بحكم انخفاض نسبة الشباب وارتفاع نسبة الفتيات، وبالتالي فإنه لا بدّ من مراعاة الظروف الراهنة التي تمرُّ بها البلاد.
الاختصاصية النفسية الدكتورة ضحى معروف قالت إن الآثار النفسية التي تعيشها الفتاة حين تُقدم العائلة على ممارسة ضغط شديد عليها للزواج بشخص غير مؤهّل ليُنقذها وأسرتها من الفقر والتشرّد، عميقة وبعيدة المدى، إذ تُهشّم نفسية الفتاة وشخصيتها لتتركها لاحقاً في حالة من التشتت والضياع النفسي والروحي.
عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية الدكتور محمد أكرم القش، يعتبر أن المجتمع “خلال الأزمات والحروب التي تستمر لفترة طويلة كالحرب الحالية التي تعيشها سورية، يبدأ بتغيير إستراتيجيات التأقلم، والزواج مثله مثل أي خيار آخر، ربما يتجه إلى الأسوأ، كالتنازل عن مواصفات معيارية للشريك مثل الدخل والشهادة العلمية، قبول الفتاة أن تكون الزوجة الثانية. كلها خيارات فردية قد يكون الفرد ضدّها، لكنه يختارها من أجل التأقلم مع الظروف، ليتبيّن في ما بعد العكس تماماً”.
ولاحقاً، ستفضي هذه الخيارات مجتمعة إلى زواج غالباً ما سيكون مشوّهاً ومفعماً بالمشكلات الناجمة إمّا عن سوء التوافق على مختلف المستويات، أو ضعف إمكانات الزوج المادية وما شابه. وبالتالي سيكون المجتمع السوري في مواجهة معضلات وأمراض إجتماعية ونفسية عميقة تحتاج إلى زمنٍ ليس بقليل كي يتمُّ تجاوزها. وبالتالي سيكون مستقبل الأسرة السورية في خطر يحتاج من المعنيين إلى إمعان النظر وإيجاد الحلول المناسبة لمختلف الظواهر السلبية المتعلّقة بالأسرة، وتحديداً مستقبل الشباب الغامض والقَلِق.
الحياة