كم من معتقل في سجون نظام الأسد أدخل السجن على قدميه ليخرج في تابوت، كومة عظام يكسوها جلد، فكيف بمعتقل مريضٍ نحيل أن يحتمل أهوال معتقلات النظام وجرائمه.
حازم شاب جميلٌ هادئٌ في الرابعة والعشرين من عمره، عرفته طفلاً صغيراً مدللاً إلى حد الإسراف، فقد كان يعاني من مرض النحافة الشديدة التي كانت سبباً في إعفائه من الخدمة العسكرية.
يصفه والده بحرقةٍ وألم “حازم كان مريض ماتركت دوا أو أكلة أو عشبة إلا جبتله ياها.. بحكم طبيعة عملي كنت سافر كتير ومن كل بلد زوره كنت جيب أفخر أنواع المأكولات لحازم بلكي بتفتح شهيته وبياكل.. لكن للأسف ما أثرت فيه كل السبل”
يكمل والده الحديث عن ابنه بصوتٍ مضطرب تخالطه شهقات ألم يحاول كبتها ليحافظ على توازنه، لكنها كانت تخذله فتخرج كلهيبٍ من داخل تنورٍ مستعر.. “بلشت الثورة وسالم الأخ التوأم لحازم صار يطلع مظاهرات بأحياء حلب.. كان حازم يتمنى يطلع بس كنت أمنعه.. أخاف عليه من الاعتقال جسمه مابيتحمل.. لحتى تحررت الأحياء الشرقية بحلب وراح سالم مع رفقاته الشباب للمناطق المحررة وبقينا نحن أهلو بمناطق النظام”
مرت شهور وحازم بعيدٌ عن أخيه التوأم الذي لم يعتد مفارقته لساعات فكيف بمدة زمنية طويلة.. بعد إلحاحٍ وإصرار منه بأن يذهب لزيارة أخيه في الأحياء المحررة، وافق أبوه.. حتى تكررت الزيارات كل مدة.
تعلق حازم في تلك الفترة بأخيه سالم وبالقضية التي اختار أخوه مناصرتها وإكمال الطريق بها حتى تحقيق النصر.. كان حلمه أن يبقى مع أخيه هناك، إلا أن والده كان يرفض بشدة خوفاً على ابنه الذي لن يستطيع تحمل مشقة العيش تحت القصف وانقطاع ظروف الحياة الطبيعية.
بينما كان والد حازم يكمل لنا قصة ابنه فإذا بالدموع غلبته وأصبح القهر سيد الموقف.. توقف عن الحديث معتذراً.. لتكمل والدته القصة “بليلة من ليالي الشتا الباردة ماحسينا إلا الباب عم يندق بقوة فتحنا الباب وانتشر الأمن بالبيت.. مالحئت حط حجابي فتشوا البيت كسروا خربوا بعدها سحبوا أولادي الشباب التلاته وتركوني أنا وأبوهم ومشيوا”
اعتقل الأمن حازما وأخويه بتهمة أن أخيهم سالم من الإرهابيين.. بعد عدة أيامٍ أستدعي الأب للتحقيق وتم تهديده بأن أولاده الثلاثة لن يخرجوا إذا لم يسلم سالم نفسه، عاد الأب إلى زوجته والحيرة تعتصر قلبه.. كيف لي أن أسلّم ابني بيدي.. وما الذي يضمن لي إطلاق سراح البقية إذا اعتقلوا سالما؟!!
لم يخبر سالما بما جرى في بداية الأمر.. لكن خوفه على حازم المريض بعد أن مرّت ستة أسابيع على اعتقاله دفعه إلى إخباره بما جرى، مستحلفا إياه عدم التهور والمجيء إلى مناطق النظام.. خاصةً أنه اعتقل في بداية الثورة وعذب تعذيباً شديدا.. ولن يرحموه في المرة الثانية.
حاولت كتيبة سالم العسكرية التي ينتمي إليها في مناطق المحرر مقايضة الأمن بتسليمهم أسرى مقابل إخراج الأخوة الثلاثة.. وافقت قوات الأمن إلا أن الإجراءات أخذت وقتاً.. والزمن يسابق حازما المريض ..أصرت الكتيبة على إخراج حازم أولاً إلا أنهم أطلقوا سراح أخيه الأكبر..وبقي حازم يصارع الموت في زنزانة مظلمة مع أخيه الأوسط.. لم يستطع جسده النحيل تحمل أهوال التعذيب وسوء التغذية وانقطاع الدواء عنه، ليلفظ أنفاسه في حضن أخيه مفارقاً الحياة.
بعد عدة شهور خرج الأخ الأوسط من السجن.. دخل بمفرده على أهله.. لم تكتمل فرحة والديه بخروجه سالماً، حتى علموا أن حازما قد مات.. مات بحسرة كسرة خبز وشربة ماء وحبة دواء.. مات وهو يوصي أخاه بأن يخبر أخاهم سالما أنه يحبه ولا ذنب له بما جرى.
لم يستطع أخو حازم الأوسط تحمل ما جرى ولا نسيان لحظات موت أخيه والتعذيب الذي تعرضا له.. وهاهو الآن بعد عدة سنوات حبيس غرفته المظلمة.. لا يحادث أحدا ولا يخرج من المنزل.. يبكي أياما وليالٍ لا يفارقه طيف أخيه حازم.
يقول أبو حازم ودموع ساخنة قد حفرت طريقها بين طيّات وجهه الهرم “فقدت فلذة كبدي حرقوا قلبي الله يحرق قلبن.. والتاني عم شوفو قدام عيني عم ينتهي وماقادر اعمل شي.. والتالت سالم تصاوب وبترت أيده.. كم موتة لازم يموت بشار حتى يبرد قلبي”
أما أمه الثكلى فتحاول لملمة جراح قلبها خوفاً على ما تبقى لها من أبنائها وحرصاً على صحة زوجها المكلوم فتقول “ويلي حزني ع ولدي الشهيد وويلي قهري ع اولادي واحد تصاوب والتاني صار مريض نفسي وويلي جوزي شو بدو يتحمل ليتحمل.. الله ينتقم منك يابشار فيك وبأولادك..”
قصة خبرية/ إيمان هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع