ما يجري في منطقة الجزيرة يذكرنا إلى حد بعيد بما جرى في سوريا قبل قرن مضى (عام 1920 تحديداً)، يوم دخل فيصل الأول بن الشريف حسين إلى دمشق برفقة ضباط من المخابرات والعسكر الإنكليز، ليكون ملكاً على سوريا.
فالكل يعلم أن حزب العمال الكردستاني دخل الجزيرة عبر واجهة حزب الاتحاد الديمقراطي بعد مفاوضات وتنسيق كاملين مع ضباط مخابرات نظام بشار الأسد؛ وكان الهدف الأساس بالنسبة إلى النظام تكليفه بمهمة منع تفاعل المناطق الكردية مع الثورة السورية من خلال إيهام وتضليل الكرد بالشعارات الديماغوجية، وتغييب الناشطين الذين تفاعلوا مع الثورة، وكانوا معها منذ اليوم الأول.
ولم يكن لهذا الحزب أن ينجح في مساعيه لولا تعاون بعض الأحزاب الكردية السورية، وبتوجيهات من الأجهزة الأمنية على الأغلب، مع الحزب المعني الذي تمكن من السيطرة والتحكم بفعل المساعدات اللوجستية والدعم الكبير الذي حصل عليه من جانب النظام، وقد تمثل ذاك الدعم في السلاح والمال، فضلاً عن الإجراءات والتدابير الإدارية التي سمحت له بحرية التصرف في المناطق الكردية.
وبعد التوافق الأمريكي-الروسي حول موضوع شرق الفرات وغربه عام 2015، وتكفل كل جانب بترتيب الأوضاع ضمن منطقته، ووفق حساباته؛ وجدت الولايات المتحدة الأمريكية في قوات الحزب المعني ضالتها. فهي قوات منظمة، تمتلك نواة قوة عسكرية يمكنها تنفيذ المهام التي ستكلف بها في منطقة شرقي الفرات، وهي أقل كلفة من القوات الأمريكية على المستويين المادي والانتخابي بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية التي كانت تتحسب لأمرين هما: التنافس الروسي والإنزعاج التركي.
فروسيا كانت هي الأخرى تريد استخدام قوات الحزب المعني، والاستفادة منها في معاركها ضمن منطقة حلب وغربي الفرات، وهي المعارك التي كانت تخوضها ضد فصائل المعارضة السورية تحت شعار: محاربة الإرهاب. في حين أنها تركت جبهة النصرة التي كانت تتذرع أصلاً بوجودها هناك لتسوغ حملاتها الجوية العنيفة على الفصائل العسكرية في شمال غربي سوريا. ولكن بعد موضوع عفرين، وانسحاب الروس من المنطقة قبل الهجوم التركي عليها، تغيرت المعطيات إلى حد ما، وباتت المنافسة الروسية على القوات المعنية أضعف.
أما العقبة التركية، فقد كانت تتمثل في الامتعاض التركي من اعتماد حليفتها الرئيسة في الناتو قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني المصنف في خانة الإرهاب لدى الحليفتين. ولتخفيف حدة هذا الرفض، تم تسويق فكرة تشكيل قوات سوريا الديمقراطية التي ضمت قوات من سائر مكونات المنطقة، وتم التركيز على المكون العربي. ولكن رغم ذلك ظل التركيز سواء من الجانب التركي أم من جانب الفصائل المرتبطة به على أن الحزب المعني لديه أهداف انفصالية، وأن لديه “مشروعاً كردياً” لتشكيل دولة في شمال شرقي سوريا. وهو المشروع الذي لا يمتلك أي أمكانيات واقعية.
هذا في حين أن من يدقق في سياسات وممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، منذ دخوله إلى الساحة السورية منذ بدايات الثورة السورية، يدرك بأن الكرد السوريين كانوا في مقدمة ضحاياه، ومن أكثرهم تضرراً. فقد هاجر بسببه أكثر من مليون كردي هرباً من حملات التجنيد “السفر برلكية”، بما في ذلك تجنيد القاصرين والقاصرات. كما أن قسماً كبيراً من الناس توجهوا إلى خارج وطنهم بحثاً عن تعليم معقول لأبنائهم وبناتهم، وذلك بعد أن فرض الحزب المذكور تحت شعار “تكريد” المناهج الدراسية مناهج أيديولوجية لا تتناسب أبداً مع طبيعة العصر وقيمه. هذا إلى جانب النقص المفزع في المؤهلات التربوية للمعلمين، فضلاً عن عدم وجود الاعتراف الرسمي بالشهادات التي تمنحها “الإدارة الذاتية” التابعة للحزب للمعني. وهذا مؤداه خلق جيل كامل من الأميين في واقع الحال.
بالإضافة إلى ذلك مارس الحزب المذكور سياسة التهديد والقمع والاعتقال بحق المخالفين لرأيه، والمعترضين على سياساته وممارساته؛ وتمكن من خلال “قوانين إدارته” من منع كل منظمات ومؤسسات المجتمع المدني غير الملتزمة بسياساته. كما استفاد بفعل الانفتاح الغربي عليه من التحكّم بأقنية الدعم الإغاثي وتوجيهها وفق حساباته الحزبية.
إلا أنه، ورغم كل أسباب القوة التي امتلكها، لم يتمكن الحزب المعني من كسب ود الناس، بل كان يتعرض باستمرار للانتقادات والاحتجاجات، خاصة بعد انكشاف الكثير من حالات الفساد، وعجز إدارة الحزب “الذاتية” عن تأمين الأولويات المعيشية الأساسية للناس، من مياه وكهرباء وخبز مقبول، ورعاية صحية مناسبة ولو في حدودها الدنيا.
“الإدارة الذاتية” تواجه حالياً أزمة وجودية بالمعنى الحقيقي للكلمة. فهي أصلاً لا تمتلك أية شرعية شعبية انتخابية. كما لا تمتلك شرعية رسمية على الصعيد الوطني، أو حتى من جانب النظام. ولا تمتلك أي اعتراف رسمي دولي، وإنما كل ما هناك علاقات نفعية، وظيفية زبائنية إذا صح التعبير.
هل ستتمكن الإدارة المعنية من تجاوز عقبة حزب العمال الكردستاني، وتحكّمه بكل شاردة وواردة عبر شبكة من الكوادر التابعين لقيادة قنديل مباشرة، هؤلاء الذين يراقبون المسؤولين على جميع المستويات في الإدارة المعنية ويوجهونهم؟ أم أن حزب الاتحاد الديمقراطي سيتمكن عبر قسد ومسد من تجاوز ارتباطه العضوي الكامل مع حزب العمال الكردستاني؟
هذا هو السؤال الجوهري الذي ربما يلقي الضوء على مغزى وأبعاد المباحثات الجارية حالياً بين مجموعة من الأحزاب بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي.
أما الخطوة الأخرى اللافتة التي أثارت الكثير من اللغط وردود الأفعال، فقد تمثلت في الإعلان عن الاتفاق بين قسد، وشركة “دلتا كريسنت” للطاقة الأمريكية لتحديث آبار النفط واستثمار النفط في مناطق سيطرة قسد. فقد تساءل الكثيرون، وبمشروعية عن السند القانوني الذي تم اعتماده سواء من جانب قسد أم من جانب الشركة لعقد هكذا اتفاق، هذا مع العلم بأن النفط السوري منذ البدايات كان موضوعاً للسرقات، سواء من جانب آل الأسد، أم من جانب الفصائل التي سيطرت على مناطق النفط منذ بدايات الثورة السورية، بما فيها داعش. واليوم ما زال النفط السوري مادة للتجارة السوداء بين المافيات والشركات والقوى الدولية المتعددة الجنسيات، وحتى النظام.
أما أهالي المنطقة سواء في الحسكة أم دير الزور فهم لا يستفيدون من النفط، بل يعانون من أزمة طاقة خانقة، كما أنهم يشكون من التلوث البيئي الشديد الذي يتسبب في انتشار الأمراض السرطانية، وأمراض جهاز التنفس، ومن دون أن يمدهم المستفيدون من النفط السوري بأي مساعدة، أو رعاية طبية، تكون عادة ملزمة في العقود النفطية.
والسؤال هنا هو: ما الهدف من الإعلان عن مثل هذا الاتفاق الذي كان يمكن أن يكون سرياً، أو أن الأمور كان يمكن أن تتم من دون اتفاق أصلاً؟ هل هناك نية لإعطاء منطقة الجزيرة وضعية خاصة في إطار عملية إعادة هيكلة جديدة قد تخضع لها المنطقة في ضوء المصالح والاعتبارات المستجدة؟
هذا مع العلم أن الإعلان المشار إليه قد أثار ردود أفعال سلبية من جانب الموالين والمعارضين في الوقت ذاته؛ رغم معرفة الجميع بأن الجانب الأمريكي هو الذي يمتلك القرار والقوة، وهو الذي سرّب المعلومة لغاية تخصه هو.
واللافت في هذا السياق أن حملات التنديد بالاتفاق لم تتركز على حزب الاتحاد الديمقراطي وحده، بل امتدت لتشمل الكرد كمكون، الأمر الذي يستشف منه وجود إرادة محلية، إقليمية، وربما دولية، لتفجير العلاقة بين العرب والكرد، وهو أمر لن يكون في حال حدوثه لصالح الطرفين، ولا في صالح الوحدة الوطنية السورية المنشودة.
وهنا لا بد من الإشادة بخطوة الإعلان عن جبهة السلام والحرية التي جمعت بين مكونات عربية وكردية وسريانية – آشورية، فهي خطوة، رغم النواقص والملاحظات، في الاتجاه الصحيح من جهة تأكيد أهمية الوحدة الوطنية بين المكونات المجتمعية في الجزيرة، التي ستكون من دون شك نواة للوحدة الوطنية السورية الأعم.
تساؤلات كثيرة تُطرح في ظل الوضعية المعقدة للغاية التي نعيشها. وهي وضعية تستوجب المتابعة المستمرة الدقيقة. أما المواقف الارتجالية المتسرعة فلن تكون الحل بل المشكلة.
ويبقى المهم الأهم في هذا المجال، ويتمثل في ضرورة استمرارية الجهود للحفاظ على العلاقة الوطنية الطبيعية بين المكونين العربي والكردي، وأن تكرس جهود جميع السوريين المناهضين لحكم الفساد والاستبداد من أجل تأمين انتقال سياسي فعلي، يضع الحلول لجملة المشكلات الوطنية، بما فيها المعيشية التي باتت كابوساً يضيق الخناق على السوريين جميعاً ومن دون أي استنثاء.
الوضعية التي نعيشها تتطلب وجود عقلية وطنية استيعابية جامعة، لا تهيمن عليها الأحكام المسبقة، ولا توجهها الأوهام القومية أو الدينية والمذهبية أو الأيديولوجية؛ عقلية تعترف بالتنوع السوري، وتقر بحقوق الجميع على قاعدة وحدة الشعب والوطن الذي يستوعب الجميع من دون أي استثناء أو تمييز.
عبدالباسط سيدا
نقلا عن القدس العربي