انخفض الطلب على النفط بسبب تفشي فيروس كورونا أسرع مما كان متوقعا، بيد أن اقتصاد الطاقة يمكن أن يتحوّل عاجلا وليس آجلا.
في مقال نشرته مجلة فورين بوليسي (Foreign Policy Magazine) الأميركية، قال الكاتب إدواردو كامبانيلا إن صناعة النفط تتعافى ببطء بعد تعرضها لأقوى نكسة دراماتيكية في تاريخها. فقد شهد شهرا مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيان طلبا منخفضا، علاوة على الإمدادات المفرطة ومحدودية سعة التخزين والمضاربة المالية المكثفة التي جعلت مؤشر الأسعار سلبيا.
وعلى الرغم من أن المخاوف بشأن اندلاع موجة ثانية من عدوى فيروس كورونا لا تزال مرتفعة، فإن الطلب عاد إلى الارتفاع في الوقت الراهن، وأصبحت الإمدادات تحت السيطرة.
لكن هذا لا يعني أن الصناعة أصبحت خارج دائرة الخطر، بعبارة أخرى، إن المصدر الأعظم لعدم اليقين بالنسبة لمنتجي النفط هيكلي وليس دوريا، حيث إن هناك شعورا متزايدا بأن ذروة النفط قادمة.
منذ الخمسينيات، كان هناك الكثير من التكهنات حول النقص الوشيك في النفط الخام، وقد أثبتت هذه التكهنات أنها خاطئة باستمرار، حيث تميل جميع التوقعات إلى الاستخفاف بالحجم الحقيقي لاحتياطات النفط العالمية وقدرة التكنولوجيا على التغلب على القيود المادية.
توقعات خاطئة
على مدى الستين عاما الماضية، ارتفع الطلب على النفط بلا هوادة تقريبا في الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء، وفي الوقت الحالي، تضاعف الطلب العالمي على النفط نحو خمس مرات مقارنة بعام 1960.
ومع ذلك، قبل تفشي فيروس كورونا، كان من المتوقع أن تؤثر العديد من العوامل الهيكلية على استهلاك النفط، بدءا من مكاسب الاستخدام الفعال للطاقة في الاقتصادات الناشئة والتسويق الشامل للسيارات الكهربائية، وصولا إلى الضغوط الاجتماعية السياسية الرامية للحد من انبعاثات الكربون والعولمة.
ورغم الإجماع الشامل على وجود مثل هذه الاتجاهات، فإنه كان هناك درجة عالية من انعدام اليقين بشأن توقيت وكيفية ارتفاع الطلب على النفط. في الحقيقة، يمكن أن تؤدي التغييرات الصغيرة في الافتراضات حول العوامل العديدة التي تحدد الطلب على النفط على المدى الطويل، على غرار النمو السكاني أو النشاط الاقتصادي أو إمكانية التنقل أو الكفاءة في استخدام الطاقة، إلى توليد مسارات مختلفة تماما.
وبالنظر إلى تنوع السيناريوهات المتعلقة بالطلب على المدى الطويل، فإن شركات الطاقة عادة ما تتجاهل الجدل القائم حول ذروة الطلب، ومع ذلك، قد يغير فيروس كوفيد-19 هذا الوضع إذا نجح في تحويل سلوك الأفراد وأولويات المجتمع بشكل دائم.
عوامل مؤثرة
أشار الكاتب إلى أن التنقل يعد العامل الأهم الذي من شأنه أن يقلب جميع التقديرات، وعلى الرغم من أن النشاط السياحي من المرجح أن ينتعش ويعود إلى مستويات ما قبل الأزمة في غضون عامين، فإن ترتيبات العمل عن بعد قد تريح ملايين العمال من عناء قطع مئات الكيلومترات للذهاب إلى العمل.
علاوة على ذلك، قد يؤدي كوفيد-19 إلى انخفاض كبير في رحلات العمل بعد أن حلت مكانها منصات الفيديو التي لن تقلل بدورها من تكاليف التشغيل فقط، ولكن يمكن أن تحقق مكاسب على صعيد الإنتاجية بفضل الوقت الذي يُقضى في المكتب أكثر من المطار.
وقد يقع إعادة ترميم بعض الأنشطة الصناعية لتقليل التعرض للصدمات التي تؤثر على شركاء الأعمال الموجودين في أماكن أخرى حول العالم، وخاصة في إنتاج السلع في القطاعات الحساسة مثل الصحة أو الأمن القومي.
فقد أدى نقص توفير أقنعة الوجه، التي أُنتجت بشكل أساسي في الصين، خلال الأيام الأولى من انتشار الوباء إلى إجبار الحكومات ليس فقط على العثور على موردين جدد، ولكن على تشجيع تحويل بعض الشركات المحلية إلى منتجين للأقنعة على حد سواء.
كما أن التقنيات الرقمية الجديدة التي تميل إلى تقليل الاعتماد على العمال ذوي المهارات المتدنية، سوف تخفض الحوافز للشركات لتقسيم إنتاجها حول العالم.
أخيرا، قد يؤدي التأثير الإيجابي لعمليات الإغلاق على جودة الهواء إلى تحفيز السلوك أكثر إفادة للبيئة في المستقبل. ففي أبريل/ نيسان الماضي، عندما علق حوالي أربعة مليارات شخص في منازلهم، انخفض تلوث الهواء فجأة في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يدعو صانعي السياسات إلى سلك اتجاه واضح من أجل الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والتعامل مع هذه المسألة بمنتهى الجدية.
وفي هذا الشأن، قد تقدم الحكومات حوافز ضريبية لحث الشركات على الاعتماد بشكل أكبر على الترتيبات المرنة لتلك الوظائف التي يمكن إجراؤها بكفاءة عن بعد، وكل هذه التغييرات السلوكية سيكون لها تأثير كبير على الطلب على النفط، ففي الولايات المتحدة حوالي 80% من الطلب على النفط الخام مرتبط بالوقود، أي البترول أو الديزل أو وقود الطائرات.
ذروة الطلب على النفط
سيكون من الكافي رؤية انخفاض الطلب على النفط بشكل دائم بمقدار 5 ملايين برميل يوميا بسبب تغير عادات النقل، التي تفرض تعديلا جذريا على العرض. دعونا لا ننسى أن روسيا والمملكة العربية السعودية خاضتا حرب أسعار مرة أخرى في مارس/آذار الماضي بسبب عدم رغبة أوبك بلس في الموافقة على تخفيضات بحوالي مليوني برميل فقط في اليوم، التي كان تأثيرها ليس فقط انهيارا في أسعار النفط ولكن في الأسواق المالية بشكل عام.
لا أحد يعرف ما إذا كانت ذروة الطلب قريبة بالفعل، وعلى المدى القصير على الأقل قد تؤدي الأزمة الصحية في الواقع إلى زيادة استهلاك النفط إذا امتنع الناس عن الاعتماد على وسائل النقل العام لتجنب العدوى المحتملة.
ومع ذلك، تأخذ شركات الطاقة سيناريو الطلب الأقصى على محمل الجد، ووفقا لوكالة الطاقة الدولية، فإن عدم اليقين هذا، إلى جانب الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الركود الحالي، سيؤدي إلى انكماش بنسبة 30% في الاستثمار العالمي المرتبط بالطاقة في عام 2020.
وذكر الكاتب أن متوسط عمر آبار الغاز الصخري الأميركي يبلغ حوالي 18 شهرا، ومع تقليص نشاط الحفر في الحقول الجديدة جزئيا، قد تتجه الأسعار في منحى تصاعدي بحلول عام 2022، إذا انخفض الإنتاج في أميركا الشمالية نتيجة لنقص الاستثمار، ولكن على المدى البعيد قد تسير الاتجاهات بشكل معاكس.
في الحالة القصوى التي تنطوي على انخفاض سريع في الطلب على النفط، مثل تلك التي يتصورها سيناريو التنمية المستدامة لوكالة الطاقة الدولية، من المرجح أن تنخفض الأسعار، مما يخلق بيئة شديدة التنافسية لا يبقى فيها سوى المنتجين الأكثر فعالية من حيث التكلفة، وشركات الغاز الصخري الأميركي لن تكون بالضرورة بينهم. ومن الواضح أن التغيرات الهائلة في اقتصاد الطاقة لن تحدث بين عشية وضحاها، ولكن فيروس كوفيد-19 قد يسرع العملية.