يخلق الخوف المتزايد من الطائفية وعياً شقياً لدى المجتمعات العربية التي تشعر أنها ضحية آلية عمياء جبارة، تفرض عليها الانقسام بين عصبيات متنافرة، وتغلق أمامها أبواب التحولات السياسية الديمقراطية والوطنية، من دون أن تستطيع فعل أي شيء. وبقدر ما يفقد هذا الشعور الثقة المتبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة التي تتبارى في اتهام بعضها بإخفاء النيات والرهانات الطائفية، يزرع الشك واليأس عند المجتمع بأكمله في إمكانية التعايش داخل الوطن الواحد، بل بناء مثل هذا الوطن الذي يفترض التضامن والتكافل والتعاون بين جميع أفراده، بقدر ما يجمعهم تحت سقف واحد، ويفرض عليهم مصيراً مشتركاً.
التعددية في المجتمعات
والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكاً لمخاطر حقيقية وحتمية، بقدر ما يعبر عن الكسل والبؤس الذين اتسم بهما الفكر القومي، والوطني المحلي، الذي اتجه في سعيه إلى إقامة دولة وطنية حديثة، وإضفاء المشروعية السياسية عليها، إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج، بدل بناء مفهوم المواطنة والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط تحقيقها، وهي الحرية والمساواة القانونية وحكم القانون الذي لا تقوم من دونه أي مواطنة، ولا رابطة سياسة، أي وطنية. وقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب برنامج بناء المواطنية، على الرغم من حديثها المكرور عن الدولة الوطنية الحديثة، بتضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات الثقافية الواحدة والأصول التاريخية المشتركة.
“ليس تعدد الطوائف، ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية” وهكذا حولت الوطنية من حقوق وواجبات وممارسات ملموسة، تخص كل شخص، وتقرر مصيره، إلى إيمان عقيدة سياسية قومية جديدة. وكانت النتيجة مضاعفة في السوء: لتحويل الوطنية إلى مسألة هوية، وتوليد نزعة وطنية انصهارية صماء، تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية، أكثر مما تعبر عن نشوء فكرة وطنية سياسية، ووضع القومية هويةً جديدةً في تنافس مع الهويات الأهلية الطائفية، أو القبلية، وبموازاتها. وهكذا أصبح التعدد الطائفي الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثروة وطنية، بدل أن يعاش عاهة مجتمعية، يبدو وكأنه نقمة إلهية أو طبيعية. وأصبح الوضع الاعتيادي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون، وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسية، بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والإسلامية، وضعاً نشازاً أو تعبيراً عما ينبغي تسميته الخطيئة الأصلية، يميز المجتمعات العربية، ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية، ويحط من قدرها وقيمتها الجوهرية.
والحال، ليس تعدد الطوائف، ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية، ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني، وتقدم مسارات التحويل الديمقراطي. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة، ويمكن تخفيضها جميعاً إلى مجموعةٍ لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية، وغيرها. وما لم تتعرض الهويات الأهلية لتحديات كبيرة، ومحاولات عدائية، تبقى التناقضات الاجتماعية، أو الاقتصادية، أكثر حدة من الخلافات الدينية والقومية في كل البلدان والأحيان. كما أن المجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية، اليوم، طائفياً وعرقياً من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند، وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموماً، يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو، في هذا المنظور، مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية. ويعكس هذا التعدد الواسع في المجتمعات الآسيوية تراكماً تاريخياً طويلاً للثقافات والقوميات، ويعبر، بعكس ما هو شائع، عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته هذه المجتمعات في الماضي. فهذا الازدهار، وما يرتبط به من نمو قيم التسامح والتعايش، وما يتيحه من إمكانيات التفاعل والتبادل والتواصل بين الثقافات، وما يفرزه من هامش تسامح فردي وجمعي، هو الذي يدفع إلى نشوء التعددية، بقدر ما يسمح بنشوء الهويات المتمايزة، أي بالتغاير داخل المجتمع الواحد بين مجموعات الرأي والثقافة، وكذلك بقدر ما يؤلف قوة جذب كبيرة للجماعات البعيدة، وبشكل خاص للجماعات المضطهدة والمقهورة في المناطق الأخرى “المتأزمة“.
ولا حاجة للذهاب بعيداً لمعاينة هذه الديناميكية التاريخية الحضارية. فالعالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة، أو المغايرة، سواء أكانت جماعات دينية أم جماعات عرقية أم جماعات رأي وثقافة سياسية ومعارضة. وجميع هؤلاء يقصدون الدول الصناعية الكبرى المتقدمة، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية التي تستقطب القسم الأكبر من مهاجري جميع الجنسيات، بسبب ما يسود في هذه الدول من ازدهار اقتصادي وتسامح فكري وتنوع عقائدي، أي من تقدم المدنية. وهم يعزّزون من طابع هذه المجتمعات التعددي، في الوقت الذي تنحو فيه المجتمعات العربية، مثلها، مثل المجتمعات المتأخرة الأخرى، إلى تعزيز الطلب على التجانس وكبت التنوع والخوف من التمايز حتى داخل الطائفة أو الجماعة العرقية أو الدينية الواحدة. وليس هذا من علامات التقدم في المدنية، ولا التشكل الوطني، ولا التسامي الديني بأي حال.
“العالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة، أو المغايرة” إن استقبال المهاجرين والجماعات المغايرة يعكس ثقة المجتمعات بنفسها، أي بثقافتها ومستقبلها وقدراتها على الدمج، ومتانة مؤسساتها السياسية والاجتماعية، بينما يعبر طرد الأقليات بصورة مقصودة، أو غير مقصودة، عن استبداد القلق والشك وغياب الثقة بالنفس، عند المجتمعات الطاردة وتهافت مؤسساتها الدستورية والاقتصادية والاجتماعية. فكما أن لوجود أغلبية ثقافية، أو دينية متجانسة، دور كبير في إحداث شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ. وبالتالي، لنشوء الدول ورسوخ الحضارة في منطقة من المناطق، تشكل الأقليات المنفتحة باستمرار وبشكل أكبر على الخارج، بسبب اختلافها ووجودها العابر غالباً حدود البلدان، ناقلا استثنائيا للمكتسبات التقنية والعلمية والفكرية، وبالتالي، حاملا رئيسيا لديناميكية التفاعل والتواصل بين الثقافات والحضارات.
والقصد، إن التعددية، بكل وجوهها وأشكالها، ليست خطأ تاريخياً، ولا بنية نشازاً، لكنها الأمر الطبيعي والشائع، أيضاً، في أي مجتمع متمدن، لا يمكن أن ينحدر، في منطق انتظامه، إلى مستوى منطق الأسرة، أو العشيرة أو الطائفة الواحدة. وقد كانت الطوائف موجودة دائما في المجتمعات العربية، وستظل موجودة في المستقبل. وهي موجودة، أيضاً، في بلدان عديدة، تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وهي لا تشكل، كما تبين ذلك تجربة الهند التي تعج باللغات والأقليات الدينية والعرقية على حد سواء، عائقاً أمام قيام نظام ديمقراطي. فهي تستطيع أن تتأقلم بسرعة بالغة معه، بل هي لا تستطيع أن تستمر إلا في إطاره، لما يوفره من أطر ثقافية وقانونية وسياسية، تضمن وحدة الجماعة الوطنية على قاعدة الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات. وفي الوقت نفسه، هامش الحرية والخصوصية التي تحتاج إليه الجماعات الأهلية الدينية أو القومية للحفاظ على البقاء. الوطنية بين الدولة والهوية
لا تتحول التعددية الطائفية إلى مشكلة تهدد الدولة الوطنية، إلا عندما تفتقر هذه الدولة لشروط بناء المواطنة كإطار أعلى وأشمل لتفاعل الأفراد، أو تفشل في تأمينها. وبالتالي، في توليد الروح الوطنية المستمدة من المشاركة في دولة الحرية والحياة القانونية، وهذا هو وضع الدولة الاستبدادية والديكتاتورية. وغالباً ما تحاول هذه الدولة نفسها أن تغذي العصبيات الأهلية أو تعبئها في سبيل تأمين قاعدة اجتماعية مضمونة لها، عندما تفتقر إلى برنامج وطني/مواطني حقيقي، أو تعجز عن تحقيقه. وتسعى إلى تعبئة بعض العصبيات الأهلية، لتخفي فشلها، وتؤمن لنفسها العصبية الداعمة، بديلاً عن الشرعية الديمقراطية والدستورية. ولذلك، أكثر ما تترسخ العصبيات الطائفية والعشائرية وتتحول إلى بديل للانتماء الوطني يحدث في ظل النظم الاستبدادية التي تلغي الحريات، وتنزع فيها النخبة الحاكمة إلى كبت الاختلافات والتمايزات بالقوة والقهر، لتخفي الطبيعة الأهلية والطائفية لخطة سيطرتها الأحادية. في هذه الحالة، لا يبقى من الوطنية سوى التأكيد الخارجي على الانتماء لثقافةٍ أو هويةٍ مشتركةٍ أو تاريخ واحد، وتتطابق فكرتها مع العصبية الأهلية الدينية والطائفية، وتتنازع معها على ولاء الأفراد وانتماءاتهم، وتطلب منهم أن يؤمنوا بها، فتتحول الوطنية إلى هوية شبه إلزامية، تتنازع مع الهويات الأهلية، بدل أن تكوّن علاقة جديدة مؤسسة لحرياتهم، وضامنة لممارستهم حقوقهم، وكافلة التزاماتهم بواجباتهم تجاه الجماعة والدولة.
“التعددية، بكل وجوهها وأشكالها، ليست خطأ تاريخياً، ولا بنية نشازاً، لكنها الأمر الطبيعي والشائع، أيضاً، في أي مجتمع متمدن” والواقع أنه من الصعب للتمايز المذهبي أو الإثني أن يتحول إلى عصبية مناقضة، أو معادية للوطنية الجامعة، وبالتالي، أن يحظى بقيمة تبادلية سياسية، إلى جانب قيمته الأصلية، مكوناً لهويات خصوصية، ما لم يحظ باهتمام النخب السياسية والثقافية، وتوظيفها له في الصراع على السلطة. وهذا ما يميز نظام الملل الذي طبع بنية المجتمعات الوسيطة، بما يمثله، بصرف النظر عن المراتبية، من اعتراف رسمي بالتنوع الديني والمذهبي، وحرية ممارسة شعائرية، منفصلة عن السياسة إلى حد كبير، وبين الطائفية التي ولدت مع نشوء السياسة الحديثة، وعلى النقيض من مفهوم السياسة الوطنية المتعاملة مع أفراد الشعب بصرف النظر عن انتماءاتهم الأهلية. فالعصبية الطائفية تتميز عن الشعور بالهوية المذهبية في أنها عصبية موجهة نحو هدف سياسي واضح، هو تأمين رصيد إضافي لجزء من النخب الوطنية، يعزز حظوظها في المعركة السياسية المفتوحة، من حول الدولة والموارد العامة. فهذه المعركة هي التي تدفع إلى شحن التمايز المذهبي والقبلي بقيم جديدة وتبدل في هويته ومضمونه. ومن دون ذلك، لا تنتج التمايزات الثقافية والأقوامية من تلقاء نفسها مكافآت سياسية، ومواقف جماعية متماثلة. فلا يتقدم الولاء المذهبي بشكل عفوي على الولاء للدولةـ لا في الدولة الملية الماضية ولا في الدولة الوطنية الحديثة. لكي يحصل ذلك، لا بد من تسييسه وأدلجته، وربطه بأهداف تختلف كلياً عن أهداف العبادة والإيمان. وهذا من عمل النخب السياسية والاجتماعية، وفي سياق صراعها للسيطرة، ولا يتحول إلى أزمة تهدد الهوية الوطنية نفسها، إلا عندما تقود أزمة السلطة إلى تفكك هذه النخب، وانهيار العهد الوطني الذي كان يوحد أطرافها. أساس الحرب الطائفية فساد السياسة الوطنية
هذا يعني أن آليات توحيد النخب الوطنية ودمجها في إطار واحد مرتبطة، هي ذاتها، بوجود مشروع بناء أمة وجماعة وطنية (سياسية). وهذا المشروع لا يوجد من تلقاء نفسه، ولا نعثر عليه في الطبيعة كما هو، وإنما هو ثمرة جهد فكري وسياسي منظم لبناء علاقات الوحدة من النخب أو أجزاء منها، ومن القادة الوطنيين الكبار. ولا يمكن أن يتقدم إلا بمقدار ما ينجح هؤلاء في تأسيس قواعد هذه الوحدة الوطنية، من أسس دستورية ومساواة قانونية ومشاركة فعلية لجميع أبناء الطوائف والقبائل والعشائر والقوميات على قدم المساواة. فالوطنية، كرابطة فوق قومية وفوق طائفية، هي الثمرة المباشرة لتوسيع دائرة المواطنة، وتطبيقها بوصفها مشاركة في بناء الدولة الحرة لأفراد أحرار ومتساوين. وبالتالي، كمشروع مشترك وجامع، وصاهر أيضاً، كل النخب ومن جميع الطوائف والمذاهب. وأصل توحيدها هو الاشتراك في هذا المشروع نفسه، فهي موحدة عليه، ومن أجله وفيه.
والحال أن مثل هذه المشروع اصطدم، في معظم الأقطار العربية، ولا يزال، بإرادة السيطرة التي تتجلى عند بعض الفئات الاجتماعية، عسكرية أو أمنية أو بيروقراطية، وتدفعها، حتى عندما لا تكون ذات نزعة طائفية، إلى اللجوء إلى التعبئة الطائفية، أو تقسيم الرأي العام إلى طوائف متناحرة على مبدأ فرق تسد، من أجل الاحتفاظ بالسلطة واحتكار القرار السياسي، وتجيير الدولة لخدمة مصالحها الخاصة. وإن دلت عملية تقويض الدولة من الداخل على شيء، وهذا هو مضمون ما حصل لدولة ما بعد الاستقلال الوطنية، فإنه يدل على هشاشة ركائز هذه الدولة الدستورية، واهتزاز قاعدتها المؤسسية من جهة، وضحالة تكوين النخب السياسية، أو عدم نضجها الكبير، وسوء تأهيلها من جهة ثانية، من دون أن يعني ذلك نفي عوامل الاختراق الداخلية والخارجية. فمشروع بناء الدولة الوطنية، بمعنى دولة المواطنة المتساوية والمشاركة السياسية العامة، لا يقوم ويتقدم ويتعمق في معزل عما يجرى حوله، وخارج السياق التاريخي الإقليمي والعالمي الحي. إن تكوينه هو جزء من الصيرورة الجيوسياسية العالمية، وهو يخضع، أيضاً، لصراعات وتوازنات القوة داخل الدول، وفي محيطها القريب والبعيد.
الأزمة الطائفية التي تعيشها مجتمعاتنا منذ عقود، والحرب المشتعلة اليوم نتيجة انفجارها ليست دينية، ولا يفسرها التنوع الطائفي، ولا جهل العامة، ولا تخلف رجال الدين. بالعكس تماماً، إنها النتيجة الطبيعية لبؤس السياسة المستحدثة التي طبقتها، منذ نشوء الدولة الوطنية، نخب اجتماعية تفتقر إلى ثقافة الدولة، ولا ترى في الوطنية إلا عصبية إضافية، تضاف إلى العصبيات الأخرى، وتتناقض سيطرتها مع أي التزام بمبدأ الحرية وحكم القانون، سياسة صاغها وخطط لها وطبقها رجال محدودو الأفق، وغالبا جاهلون بحاجات الدول والشعوب، بصرف النظر عن منشئهم، مدنياً كان أم دينياً. وليس لهذه الحرب أي فرصة في أن تستمر، من دون إرادة السياسيين.
التعددية في المجتمعات
والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكاً لمخاطر حقيقية وحتمية، بقدر ما يعبر عن الكسل والبؤس الذين اتسم بهما الفكر القومي، والوطني المحلي، الذي اتجه في سعيه إلى إقامة دولة وطنية حديثة، وإضفاء المشروعية السياسية عليها، إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج، بدل بناء مفهوم المواطنة والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط تحقيقها، وهي الحرية والمساواة القانونية وحكم القانون الذي لا تقوم من دونه أي مواطنة، ولا رابطة سياسة، أي وطنية. وقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب برنامج بناء المواطنية، على الرغم من حديثها المكرور عن الدولة الوطنية الحديثة، بتضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات الثقافية الواحدة والأصول التاريخية المشتركة.
“ليس تعدد الطوائف، ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية” وهكذا حولت الوطنية من حقوق وواجبات وممارسات ملموسة، تخص كل شخص، وتقرر مصيره، إلى إيمان عقيدة سياسية قومية جديدة. وكانت النتيجة مضاعفة في السوء: لتحويل الوطنية إلى مسألة هوية، وتوليد نزعة وطنية انصهارية صماء، تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية، أكثر مما تعبر عن نشوء فكرة وطنية سياسية، ووضع القومية هويةً جديدةً في تنافس مع الهويات الأهلية الطائفية، أو القبلية، وبموازاتها. وهكذا أصبح التعدد الطائفي الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثروة وطنية، بدل أن يعاش عاهة مجتمعية، يبدو وكأنه نقمة إلهية أو طبيعية. وأصبح الوضع الاعتيادي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون، وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسية، بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والإسلامية، وضعاً نشازاً أو تعبيراً عما ينبغي تسميته الخطيئة الأصلية، يميز المجتمعات العربية، ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية، ويحط من قدرها وقيمتها الجوهرية.
والحال، ليس تعدد الطوائف، ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية، ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني، وتقدم مسارات التحويل الديمقراطي. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة، ويمكن تخفيضها جميعاً إلى مجموعةٍ لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية، وغيرها. وما لم تتعرض الهويات الأهلية لتحديات كبيرة، ومحاولات عدائية، تبقى التناقضات الاجتماعية، أو الاقتصادية، أكثر حدة من الخلافات الدينية والقومية في كل البلدان والأحيان. كما أن المجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية، اليوم، طائفياً وعرقياً من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند، وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموماً، يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو، في هذا المنظور، مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية. ويعكس هذا التعدد الواسع في المجتمعات الآسيوية تراكماً تاريخياً طويلاً للثقافات والقوميات، ويعبر، بعكس ما هو شائع، عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته هذه المجتمعات في الماضي. فهذا الازدهار، وما يرتبط به من نمو قيم التسامح والتعايش، وما يتيحه من إمكانيات التفاعل والتبادل والتواصل بين الثقافات، وما يفرزه من هامش تسامح فردي وجمعي، هو الذي يدفع إلى نشوء التعددية، بقدر ما يسمح بنشوء الهويات المتمايزة، أي بالتغاير داخل المجتمع الواحد بين مجموعات الرأي والثقافة، وكذلك بقدر ما يؤلف قوة جذب كبيرة للجماعات البعيدة، وبشكل خاص للجماعات المضطهدة والمقهورة في المناطق الأخرى “المتأزمة“.
ولا حاجة للذهاب بعيداً لمعاينة هذه الديناميكية التاريخية الحضارية. فالعالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة، أو المغايرة، سواء أكانت جماعات دينية أم جماعات عرقية أم جماعات رأي وثقافة سياسية ومعارضة. وجميع هؤلاء يقصدون الدول الصناعية الكبرى المتقدمة، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية التي تستقطب القسم الأكبر من مهاجري جميع الجنسيات، بسبب ما يسود في هذه الدول من ازدهار اقتصادي وتسامح فكري وتنوع عقائدي، أي من تقدم المدنية. وهم يعزّزون من طابع هذه المجتمعات التعددي، في الوقت الذي تنحو فيه المجتمعات العربية، مثلها، مثل المجتمعات المتأخرة الأخرى، إلى تعزيز الطلب على التجانس وكبت التنوع والخوف من التمايز حتى داخل الطائفة أو الجماعة العرقية أو الدينية الواحدة. وليس هذا من علامات التقدم في المدنية، ولا التشكل الوطني، ولا التسامي الديني بأي حال.
“العالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة، أو المغايرة” إن استقبال المهاجرين والجماعات المغايرة يعكس ثقة المجتمعات بنفسها، أي بثقافتها ومستقبلها وقدراتها على الدمج، ومتانة مؤسساتها السياسية والاجتماعية، بينما يعبر طرد الأقليات بصورة مقصودة، أو غير مقصودة، عن استبداد القلق والشك وغياب الثقة بالنفس، عند المجتمعات الطاردة وتهافت مؤسساتها الدستورية والاقتصادية والاجتماعية. فكما أن لوجود أغلبية ثقافية، أو دينية متجانسة، دور كبير في إحداث شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ. وبالتالي، لنشوء الدول ورسوخ الحضارة في منطقة من المناطق، تشكل الأقليات المنفتحة باستمرار وبشكل أكبر على الخارج، بسبب اختلافها ووجودها العابر غالباً حدود البلدان، ناقلا استثنائيا للمكتسبات التقنية والعلمية والفكرية، وبالتالي، حاملا رئيسيا لديناميكية التفاعل والتواصل بين الثقافات والحضارات.
والقصد، إن التعددية، بكل وجوهها وأشكالها، ليست خطأ تاريخياً، ولا بنية نشازاً، لكنها الأمر الطبيعي والشائع، أيضاً، في أي مجتمع متمدن، لا يمكن أن ينحدر، في منطق انتظامه، إلى مستوى منطق الأسرة، أو العشيرة أو الطائفة الواحدة. وقد كانت الطوائف موجودة دائما في المجتمعات العربية، وستظل موجودة في المستقبل. وهي موجودة، أيضاً، في بلدان عديدة، تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وهي لا تشكل، كما تبين ذلك تجربة الهند التي تعج باللغات والأقليات الدينية والعرقية على حد سواء، عائقاً أمام قيام نظام ديمقراطي. فهي تستطيع أن تتأقلم بسرعة بالغة معه، بل هي لا تستطيع أن تستمر إلا في إطاره، لما يوفره من أطر ثقافية وقانونية وسياسية، تضمن وحدة الجماعة الوطنية على قاعدة الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات. وفي الوقت نفسه، هامش الحرية والخصوصية التي تحتاج إليه الجماعات الأهلية الدينية أو القومية للحفاظ على البقاء. الوطنية بين الدولة والهوية
لا تتحول التعددية الطائفية إلى مشكلة تهدد الدولة الوطنية، إلا عندما تفتقر هذه الدولة لشروط بناء المواطنة كإطار أعلى وأشمل لتفاعل الأفراد، أو تفشل في تأمينها. وبالتالي، في توليد الروح الوطنية المستمدة من المشاركة في دولة الحرية والحياة القانونية، وهذا هو وضع الدولة الاستبدادية والديكتاتورية. وغالباً ما تحاول هذه الدولة نفسها أن تغذي العصبيات الأهلية أو تعبئها في سبيل تأمين قاعدة اجتماعية مضمونة لها، عندما تفتقر إلى برنامج وطني/مواطني حقيقي، أو تعجز عن تحقيقه. وتسعى إلى تعبئة بعض العصبيات الأهلية، لتخفي فشلها، وتؤمن لنفسها العصبية الداعمة، بديلاً عن الشرعية الديمقراطية والدستورية. ولذلك، أكثر ما تترسخ العصبيات الطائفية والعشائرية وتتحول إلى بديل للانتماء الوطني يحدث في ظل النظم الاستبدادية التي تلغي الحريات، وتنزع فيها النخبة الحاكمة إلى كبت الاختلافات والتمايزات بالقوة والقهر، لتخفي الطبيعة الأهلية والطائفية لخطة سيطرتها الأحادية. في هذه الحالة، لا يبقى من الوطنية سوى التأكيد الخارجي على الانتماء لثقافةٍ أو هويةٍ مشتركةٍ أو تاريخ واحد، وتتطابق فكرتها مع العصبية الأهلية الدينية والطائفية، وتتنازع معها على ولاء الأفراد وانتماءاتهم، وتطلب منهم أن يؤمنوا بها، فتتحول الوطنية إلى هوية شبه إلزامية، تتنازع مع الهويات الأهلية، بدل أن تكوّن علاقة جديدة مؤسسة لحرياتهم، وضامنة لممارستهم حقوقهم، وكافلة التزاماتهم بواجباتهم تجاه الجماعة والدولة.
“التعددية، بكل وجوهها وأشكالها، ليست خطأ تاريخياً، ولا بنية نشازاً، لكنها الأمر الطبيعي والشائع، أيضاً، في أي مجتمع متمدن” والواقع أنه من الصعب للتمايز المذهبي أو الإثني أن يتحول إلى عصبية مناقضة، أو معادية للوطنية الجامعة، وبالتالي، أن يحظى بقيمة تبادلية سياسية، إلى جانب قيمته الأصلية، مكوناً لهويات خصوصية، ما لم يحظ باهتمام النخب السياسية والثقافية، وتوظيفها له في الصراع على السلطة. وهذا ما يميز نظام الملل الذي طبع بنية المجتمعات الوسيطة، بما يمثله، بصرف النظر عن المراتبية، من اعتراف رسمي بالتنوع الديني والمذهبي، وحرية ممارسة شعائرية، منفصلة عن السياسة إلى حد كبير، وبين الطائفية التي ولدت مع نشوء السياسة الحديثة، وعلى النقيض من مفهوم السياسة الوطنية المتعاملة مع أفراد الشعب بصرف النظر عن انتماءاتهم الأهلية. فالعصبية الطائفية تتميز عن الشعور بالهوية المذهبية في أنها عصبية موجهة نحو هدف سياسي واضح، هو تأمين رصيد إضافي لجزء من النخب الوطنية، يعزز حظوظها في المعركة السياسية المفتوحة، من حول الدولة والموارد العامة. فهذه المعركة هي التي تدفع إلى شحن التمايز المذهبي والقبلي بقيم جديدة وتبدل في هويته ومضمونه. ومن دون ذلك، لا تنتج التمايزات الثقافية والأقوامية من تلقاء نفسها مكافآت سياسية، ومواقف جماعية متماثلة. فلا يتقدم الولاء المذهبي بشكل عفوي على الولاء للدولةـ لا في الدولة الملية الماضية ولا في الدولة الوطنية الحديثة. لكي يحصل ذلك، لا بد من تسييسه وأدلجته، وربطه بأهداف تختلف كلياً عن أهداف العبادة والإيمان. وهذا من عمل النخب السياسية والاجتماعية، وفي سياق صراعها للسيطرة، ولا يتحول إلى أزمة تهدد الهوية الوطنية نفسها، إلا عندما تقود أزمة السلطة إلى تفكك هذه النخب، وانهيار العهد الوطني الذي كان يوحد أطرافها. أساس الحرب الطائفية فساد السياسة الوطنية
هذا يعني أن آليات توحيد النخب الوطنية ودمجها في إطار واحد مرتبطة، هي ذاتها، بوجود مشروع بناء أمة وجماعة وطنية (سياسية). وهذا المشروع لا يوجد من تلقاء نفسه، ولا نعثر عليه في الطبيعة كما هو، وإنما هو ثمرة جهد فكري وسياسي منظم لبناء علاقات الوحدة من النخب أو أجزاء منها، ومن القادة الوطنيين الكبار. ولا يمكن أن يتقدم إلا بمقدار ما ينجح هؤلاء في تأسيس قواعد هذه الوحدة الوطنية، من أسس دستورية ومساواة قانونية ومشاركة فعلية لجميع أبناء الطوائف والقبائل والعشائر والقوميات على قدم المساواة. فالوطنية، كرابطة فوق قومية وفوق طائفية، هي الثمرة المباشرة لتوسيع دائرة المواطنة، وتطبيقها بوصفها مشاركة في بناء الدولة الحرة لأفراد أحرار ومتساوين. وبالتالي، كمشروع مشترك وجامع، وصاهر أيضاً، كل النخب ومن جميع الطوائف والمذاهب. وأصل توحيدها هو الاشتراك في هذا المشروع نفسه، فهي موحدة عليه، ومن أجله وفيه.
والحال أن مثل هذه المشروع اصطدم، في معظم الأقطار العربية، ولا يزال، بإرادة السيطرة التي تتجلى عند بعض الفئات الاجتماعية، عسكرية أو أمنية أو بيروقراطية، وتدفعها، حتى عندما لا تكون ذات نزعة طائفية، إلى اللجوء إلى التعبئة الطائفية، أو تقسيم الرأي العام إلى طوائف متناحرة على مبدأ فرق تسد، من أجل الاحتفاظ بالسلطة واحتكار القرار السياسي، وتجيير الدولة لخدمة مصالحها الخاصة. وإن دلت عملية تقويض الدولة من الداخل على شيء، وهذا هو مضمون ما حصل لدولة ما بعد الاستقلال الوطنية، فإنه يدل على هشاشة ركائز هذه الدولة الدستورية، واهتزاز قاعدتها المؤسسية من جهة، وضحالة تكوين النخب السياسية، أو عدم نضجها الكبير، وسوء تأهيلها من جهة ثانية، من دون أن يعني ذلك نفي عوامل الاختراق الداخلية والخارجية. فمشروع بناء الدولة الوطنية، بمعنى دولة المواطنة المتساوية والمشاركة السياسية العامة، لا يقوم ويتقدم ويتعمق في معزل عما يجرى حوله، وخارج السياق التاريخي الإقليمي والعالمي الحي. إن تكوينه هو جزء من الصيرورة الجيوسياسية العالمية، وهو يخضع، أيضاً، لصراعات وتوازنات القوة داخل الدول، وفي محيطها القريب والبعيد.
الأزمة الطائفية التي تعيشها مجتمعاتنا منذ عقود، والحرب المشتعلة اليوم نتيجة انفجارها ليست دينية، ولا يفسرها التنوع الطائفي، ولا جهل العامة، ولا تخلف رجال الدين. بالعكس تماماً، إنها النتيجة الطبيعية لبؤس السياسة المستحدثة التي طبقتها، منذ نشوء الدولة الوطنية، نخب اجتماعية تفتقر إلى ثقافة الدولة، ولا ترى في الوطنية إلا عصبية إضافية، تضاف إلى العصبيات الأخرى، وتتناقض سيطرتها مع أي التزام بمبدأ الحرية وحكم القانون، سياسة صاغها وخطط لها وطبقها رجال محدودو الأفق، وغالبا جاهلون بحاجات الدول والشعوب، بصرف النظر عن منشئهم، مدنياً كان أم دينياً. وليس لهذه الحرب أي فرصة في أن تستمر، من دون إرادة السياسيين.
برهان غليون – العربي الجديد