زهرة محمد – المركز الصحفي السوري
بين (النوفرة والهافانا والعجلوني وأبوشفيق) قصص اختلف أصحابها، ولكن الحلم كان واحدا، تنوع الزوار واختلفت الثقافة ولكن هاجسهم كان موحدا، وهو البوح لتلك المقاعد الخشبية والطاولات الصغيرة، بأسرار ثورية تارة و حياتية بسيطة تارات أخرى، تلك المقاهي الصغيرة التي لملمت شتات الشباب والمثقفين والعمال والطلاب، والتي شهدت على قرارات مصيرية أو كلمات ليس لها معنى بين الشباب على سبيل المزاح واللهو، تلك المقاهي الصامتة التي حفظت أسرار الجميع وغيرتها الحرب ككل شيء.
لم تكن مقاهي دمشق مكانا للتسلية و إمضاء الوقت على كراسٍ خشبية فقط، بل كانت مكانا يجمع الأصدقاء وهمومهم وأفراحهم وأحلامهم المشتركة، و سهر ليال كانت للبعض عادة أسبوعية أويومية أحيانا!
فادي الحمصي 40 عاما، وهو الآن في تركيا منذ ثمان سنوات، يستذكر كل تلك المشاهد الجميلة التي يحن إليها وتحن إليه، ( كنا شلة شباب، وكل مقاهي الربوة كان لها من ذكرياتنا نصيب، كنت أنا ورفاقي نذهب كل يوم خميس بعد أسبوع من التعب والعمل، و نسهر طوال الليل.. حتى طلوع الفجر وأحيانا لبعد ذلك الوقت بكثير… كانت همومنا بسيطة كنا نحلم كاي شباب بالاستقرار والزواج و المنزل وو… ))
ويستذكر فادي كل تلك المشاهد الجميلة التي مازال يحلم بها أن تعود (( كنا نطلب الشاي و القهوة والبليلة والفول النابت )
ويضيف كنت أحب المقالب فكنت أطلب الشاي والقهوة وغيرها من المشروبات، ثم أضعها على طاولة فارغة كي يظن صاحب المحل أن الذين كانوا يجلسون هربوا دون أن يدفعوا ثمن ما طلبوا، إلا أني بعدها أوضح له أنني أنا من وضع ذلك على الطاولة مازحا )).
ولكن فادي ليس متشائما بعد تفرق رفاقه بين بقاع الارض في رحلة اللجوء, بقاء آخرين في سوريا، و يرى أن تلك الأيام قد تعود إن عاد إلى سوريا، فالحلم ممكن أن يكون واقعا، إن أراد الجميع ذلك، ويقول ( كل شيء سيعود كما كان، أرى ذلك بوضوح ولست متشائما، بل كل شيء ممكن، وسوف تعود أيامنا جميلة رغم كل ما حصل ).
وعلي ما يبدو فإن البعض لا ير نورا أخر النفق، فقد تغير المجتمع الدمشقي، و تناوبت المصائب عليهم ككل السوريين وكان التفكك والتشتت هو المسيطر خلال سنوات من القمع والاحتلال الروسي والإيراني، فقد تغير الرواد والزوار، ولم يعد سكان دمشق ينعمون برفاهية العودة لمسقط رأسهم، ولا لحياتهم إلى الأبد، فكيف بالاجتماع في مقاه غيرها النظام الأسدي كما غير خارطة دمشق كلها .
بالنسبة لجمال45 لاجئ في المغرب، فيرى أن لا شيء سوف يعود كما كان، وقد اعتاد هو ورفاقه الذهاب إلى المقاهي الدمشقية بعد عناء العمل، – كنا نذهب بعد السهر طوال الليل ولعب (التريكس ) لعبتي المفضلة، إلى حمام ( نور الدين الشهيد) في البزورية، أو إلى أحد مطاعم الميدان الشعبية كي نفطر ( فول مدمس وتسقية)، (كانت تلك أيام…. أجمل الأيام التي لن تنس..مهما مر بي الوقت .. ).
ولكن حسب تعبيره ( لقد تغير كل شيء، لن يعود شيئا كمان بعد كل هذا التشتت والألم، لقد غيرت السنوات الماضية كل شيء، حتى على الصعيد الاجتماعي، ولا شيء سوف يغير هذه الحسرة داخلنا لو عدنا إلى دمشق، وحتى العودة باتت شبه مستحيلة على مايبدو، لقد تغيرت أحلامنا و كل شيء في حياتنا، ولا أظن أن الحياة سوف تعود كما كانت في السابق أو حتى قريبة مما كانت عليه …
كانت مقاهي دمشق على مدى قرون، مكانا للراحة و التسلية و ( البال المرتاح) و متنفسا لروادها الذين اعتادوا الذهاب إليها، وكان البعض لا يستطيع الاستغناء عن سهرته من أصحابه، بل قد تكون هي الأولى من كل مخططاته اليومية أو الأسبوعية فهي الساعات التي قد يرمي بها أحدهم كل همومه خلق الكرسي الذي جلس عليه!!.
بالنسبة لعصام متزوج ولديه 3 أولاد، ويعيش في دمشق فالموضوع مختلف جدا فهو رغم وجوده في دمشق، فإنه يحاول المحافظة على عاداته القديمة في السهر مع (شلته) وإن كان هناك اختلافا في الوجوه، وكان يسهر مع رفاقه في قهوة الحجاز بشكل دائم دون انقطاع مهما كانت الظروف، ولكن خلال السنوات الماضية تغير كل شيء، فمنهم من اختفى دون معرفة أي شيء عنه، وآخرين باتوا لاجئين في أروبا, والبعض غيبه الموت، أما الآن فهو يسهر في منزله أو منزل أحد رفاقه الذين مازالوا معه، و يوضح أن كل تلك الليالي الجملية لم تعد كما كانت فالوجوه تغيرت، وحتى الجلوس في نفس المقهى بات عبئا بعد غلاء كل شيء أكثر من عشرة أضعاف، و بات الاجتماع في سهرة منزلية أخف عبئا وأقل تكلفة .
في ليلة ونهار، تغير كل شيء في دمشق كما تغيرت كل مدن سوريا وغرقت في حرب كان لها أول وليس لها آخر على ما يبدو، وبين الأمس واليوم والغد، حلم وواقع و أمل، يعلق به وعليه أغلب السوريون آمالهم في العودة لما كان، والعودة لسهرات كانت تجمع القلوب بحب وفرح، ليس فقط في مقاه افتقدت زوارها واشتاقتهم واشتاقوها، بل في بيوت باتت خاوية على عروشها من أصحابها بين شهيد وفقيد ولاجئ، فهل من لقاء يوما ؟!.