مقاربتان مختلفتان للنظام السوري حيال تنظيم “داعش” تستحقان التوقف عند كل منهما, بحثاً عن إجابات لما حدث في السويداء أخيراً من هجمات إرهابية, وتعود أسبابها الدفينة إلى رغبة النظام في تصفية حساب قديم مع جبل العرب, عمره من عمر الثورة.

ففي حين سخر النظام كامل مقدراته العسكرية لحسم المعركة في الجنوب السوري ضد “جيش خالد بن الوليد” المبايع لتنظيم “داعش”, تصرف بشكل مغاير كلياً في ريف محافظة السويداء الشرقي. وعوضاً عن مواجهة معاقل التنظيم المتركزة في بادية السويداء وسط منطقة وعرة تسكنها عشائر عربية صغيرة تعرف محلياً باسم “بدو السويداء”, سحب النظام كافة عناصره وقواته وحواجزه من آخر القرى الدرزية جاعلاً منها هدفاً مكشوفاً للتنظيم.

وفي حين بايعت بعض فصائل الجنوب “داعش” من تلقائها, عمل النظام السوري بدأب على تشكيل جيب “داعشي” صريح على تخوم السويداء التي سبق أن تحررت باديتها بالكامل من التنظيم في ربيع العام 2017. ذاك أن فصائل تابعة لـ “الجيش الحر” كـ “قوات أحمد العبدو”، و”جيش أسود الشرقية”، و”شهداء القريتين” كانت قد نفذت عملية نوعية طردت خلالها مقاتلي “داعش” من كامل بادية السويداء وريف دمشق وسيطرت على طريق دمشق- بغداد بشكل كلي.

لكن, وبعد اشتداد معارك الحجر الأسود ومخيم اليرموك، ووقوع خسائر كبيرة في صفوف قوات النخبة في جيش النظام والفرقة الرابعة، والحرس الجمهوري، وسقوط مئات مقاتلي المليشيات الإيرانية، من عديمي الخبرة في حرب المدن, وعلى أثر تهديم أجزاء كبيرة من المخيم والمناطق التي يتحصن فيها مئات مقاتلي “داعش”، توصل الروس إلى قرار يقضي بوقف استنزاف المشاة في حرب مدن خبرها جيشهم جيداً في الحرب الافغانية وقبلها في الحرب العالمية الثانية.

وبناء عليه, رفضت موسكو طلب مقاتلي التنظيم نقلهم إلى منطقة الوعر و”الكامب” (بادية حمص) وجنوب الميادين (جنوب دير الزور), مقابل منحهم حرية الخروج بالسلاح المتوسط والخفيف إلى شرق السويداء. وهو ما تم لهم في قافلات من الباصات المكيفة سيرها النظام تباعاً من اليرموك إلى السويداء.

ولم يأت خيار موسكو الجغرافي من عدم. فالهدف من فرض بادية السويداء مكاناً وحيداً للخروج، هو إبقاء “داعش” على حدود قاعدة التنف، وتعزيز تهمة دعم واشنطن “داعش”، وزيادة الضغط على الأردن من خلال توسيع سيطرة التنظيم عند حدوده الشمالية. ومن شأن ذلك أن يشكل ورقة في يد النظام ضمن تسوية مرتقبة في درعا والقنيطرة، إضافة إلى تعجيل تسوية وضع المنشقين والمتخلفين عن الخدمة العسكرية في محافظة السويداء وفرض التحاقهم بالفيلق الخامس- اقتحام – مقابل ذريعة الحماية من “داعش”.

والحال أن السويداء كانت شكلت ملاذاً آمناً للمتخلفين عن الالتحاق بالجيش ومطلوبي الاحتياط من الدروز حتى بلغ عددهم نحو 53 ألفاً. وتعتبر حركة “رجال الكرامة” التعبير الأبرز على رفض أبناء الطائفة الدرزية الدخول في الحرب السورية والنأي بأنفسهم عن هذا الصراع وترجمت برفض التحاق الشباب في جيش النظام رافعين شعار “دم السوري على السوري حرام”.

زاد الوضع تشجناً تصريح للشيخ البلعوس في شريط مصور قال فيه: “كرامتنا أغلى من بشار الأسد”

وإذ شكل “رجال الكرامة” بقيادة الشيخ وحيد البلعوس مؤسس الحركة ومطلق شعارها, اعتراضاً واضحاً على المشيخة الدرزية التقليدية التي أيدت النظام، يبقى أن المبادرة لم تتطور (ولم تسع ربما), إلى انشقاق فعلي داخل المشيخة المتماسكة اجتماعياً, مفضلة تركيز جهدها وقوتها على منع احتكار النظام لمنطقة جبل العرب. وفي حين كان النظام يخوض حرباً إعلامية لإثبات أن الثورة هي فعل “إرهابيين”, وأنه حامي الأقليات, أدى نشوء تلك الحركة العلنية, إلى توتر كبير معه ومع رموزه في المنطقة لا سيما قائد فرع المخابرات العسكرية في الجنوب العميد وفيق ناصر. زاد الوضع تشجناً تصريح للشيخ  البلعوس في شريط مصور قال فيه :”كرامتنا أغلى من بشار الأسد”. تصريح دفع البلعوس حياته ثمنا له, إذ قضى وخمسين من مشايخ الكرامة في تفجيرين، استهدف الأول موكبه، ونفذ الثاني أمام المشفى الوطني حيث أسعف الجرحى من المشايخ في أيلول 2015.

ومع التحضير لمعركة حوض اليرموك الأخيرة ضد “داعش”, توترت العلاقة بشكل متزايد مع موسكو بعد رفض “رجال الكرامة” وعدد كبير من المشايخ والوجهاء الطلب الروسي في المشاركة بالمعركة فما كان من الوفد الروسي إلا أن تحدث عن “وجود قوات إرهابية في جبل العرب” في إشارة منه إلى حركة “رجال الكرامة”, ليرد المشايخ بوصف “روسيا دولة احتلال”.

وكان المشايخ خلال المفاوضات مع الطرف الروسي رفضوا تسليم المتخلفين والحاقهم بوحدات الجيش خارج نطاق المحافظة ووافقوا فقط على الخدمة داخل محافظتهم ضمن ملاك الفرقة 15 في السويداء وكتائب الدفاع الجوي ومطاري الثعلة وخلخلة.

لكن الحل الروسي بدأ يتضح جلياً مع سحب الحواجز العسكرية عن أبواب بادية السويداء وطلب الأفرع الأمنية تسليم سلاح المتعاقدين معها, إذ تم سحب سلاح المليشيات المقربة جدا من النظام، مثل “نسور الزوبعة” و”كتائب البعث” و”الدفاع الوطني” في الريف الشرقي, ومليشيا “حماة الديار” التي أسسها العميد وفيق ناصر ويقودها الشيخ نزيه جربوع, ابن شيخ العقل السابق, وابن أخ شيخ العقل الحالي.

ومنذ 2012, سعى النظام إلى منح بعض المليشيات المحلية غطاء دينياً وربطها مباشرة بالجهاز الأمني التابع له, لاستخدامها ضد أي حراك عسكري محتمل ضده, لا سيما مع ذروة الانشقاقات وتشكيل نواة “جيش حر” وانشقاق الملازم أول المهندس “خدلون زين الدين” وتأسيس كتيبة “سلطان باشا الأطرش”.

السويداء إلى حضن النظام 

مع انهيار المعارضة في الغوطة وطوق دمشق، وتسوية أوضاع المقاتلين وتهجيرهم إلى حمص، وما حصل في الجارة درعا, تفرغ النظام أخيراً لإنهاء ملف السويداء التي لم يشفع لها حتى حيادها.

وكان أسلوب المراعاة ومنح الدروز في جبل العرب كما بقية الأقليات, وضعاً خاصاً ترافق مع فقدان النظام سيطرته الأمنية والعسكرية على التراب السوري, خصوصاً في الأرياف وبعض المدن الصغيرة. وكانت الحاجة لعزل الدروز وإبعادهم عن الانتفاضة الشعبية وتحديداً في أيامها السلمية الأولى, حاجة ملحة لدى النظام لإثبات أنها فوضى إرهابيين وعصابات مسلحة.

يمكن القول إن عزوف الدروز عن الانخراط في صفوف الثورة.. ساهم في اعتكاف المسيحيين والعلويين وغيرهم من الأقليات

ويمكن القول إن عزوف الدروز عن الانخراط في صفوف الثورة كجماعة هي الأكثر تماسكاً وتنظيماً بين “الأقليات”, وتفويتهم فرصة قيادة قاطرة التغيير في سوريا على غرار ما فعل الزعيم سلطان باشا الأطرش, ساهم بدوره في اعتكاف المسيحيين والعلويين وغيرهم من الأقليات, كما عزز فكرة الثورة بصفتها مجرد “تمرد سني”. فقد كان لمشاركتهم لو تمت, واستقطابهم لو نجح, أن يحافظ على خطاب أكثر وطنية وتقدم صمام أمان ضد الانجراف الكبير نحو الإسلام السياسي والسلفية الجهادية.

واليوم, مع انتصارات النظام المتتالية, واستعادة 70 بالمئة مما خسره من مساحة سوريا، بات بإمكانه الاستعجال بتصفية ذلك الحساب مع جبل العرب على طريقته. ولسان حاله يقول إن من يتخلف عن قتال وحش “داعش” ضمن صفوف الجيش السوري، سيأكله الوحش، وسنجلس نحن متفرجين.

وقد لا يستبعد ترك الدروز أمام مزيد من المواجهات المنفردة مع التنظيم، حيث يشن هجماته المتكررة على القرى الشرقية مسبباً حركة نزوح كبيرة باتجاه مدينة السويداء واستنزافاً لـ “رجال الكرامة” بعددهم الصغير أصلاً, وسلاحهم المتواضع وافتقارهم لخط إمداد من درعا كما في السابق.

الجرح ساخن في السويداء، ولا مكان للنقاش الهادئ إلا بعد حين.

لكن الملح اليوم هو البحث في مصير أبناء جبل العرب وإبعاد ذلك الكأس عنهم. فهم مهددون بحرب إبادة كاملة ممن كان يزعم حمايتهم, ولن يجدي طلب الفزعة من حوران ودمشق وإدلب وحمص… فليس من مجيب.